فارس لا يعوض

"فارس لا يعوض"

المغرب اليوم -

فارس لا يعوض

بقلم: بدر الدين الإدريسي


قبل نحو سنتين، جمعتني وشقيقي محمد فؤاد، في جلسة تحليلية وتعريفية بالتفاصيل الدقيقة لجراحة القلب المفتوح، التي كان سيقبل عليها أخى محمد فؤاد، بالفريق الطبي الذي كان يقوده البروفيسور سعد بلحاج، أحد أمهر الجراحين لأمراض القلب والشرايين بالمغرب، وكان بينهم طبيب جراح كنت أجده يلتفت إلي بين الحين والآخر، بابتسامة هي من دلائل إنسانيته وكاريزميته، لم أكن وقتها قد تعرفت عليه ولا عرفت إسمه، وقد وجدته يدعوني وقد انفضت الجلسة الطبية تلك، إلى مكتبه الذي لا يبعد كثيرا عن مكتب الدكتور بلحاج في الجناح المخصص لأمراض القلب والشرايين، بمصحة أكدال بالعاصمة الرباط.
لبيت الدعوة بصدر رحب، وبعد أن أعاد طمأنة شقيقي محمد فؤاد، وأثنى على شجاعته ودرجة إيمانه، كشف الطبيب الجراح الذي يقضي ساعات طوال داخل غرف العمليات ينقذ حيوات إنسانية بالمئات، عن الوجه الآخر المبهر في شخصيته، فهو إبن عائلة رياضية تنحدر من مدينة وجدة، حاضرة الشمم والإباء والنخوة، ذكرني بوالده الذي كان من أوائل الأطر التقنية التي تولت تدريب المنتخب الوطني لألعاب القوى في فجر الإستقلال، وأبحر في عالم كرة القدم، ليسرد بشكل مثير للدهشة الكثير من الفصول الجميلة والدرامية في تاريخ كرة القدم الوطنية، ثم إنتهى إلى ما كان يشكل له شبه قرحة فكرية، التدني الذي حصل على مستوى النقد الرياضي في الشق التحليلي على الخصوص داخل محطاتنا الإذاعية وقنواتنا التلفزية.
 كانت تلك الجلسة التي ما زلت أذكر جيدا تفاصيلها، هي مبتدأ علاقة لا حاجة لأن أخوض في تفاصيلها، فبعضها إرث معرفي وإنساني لا يقبل بالتقاسم، برغم أن كنهه ومضمونه، يقول بوقوفنا معا على نفس الناصية في تحليل الظواهر الرياضية وفي التعبير عن الشغف الذي لازم كلينا منذ مرحلة الطفولة، الشغف بالرياضة وبخاصة كرة القدم بكل تعبيراتها الإبداعية وقيمها الإنسانية الرفيعة.
 وفي حمأة الحزن الكبير على خروج الفريق الوطني صاغرا من الدور ثمن النهائي لكاس إفريقيا للأمم بمصر، وجدت صديقي الدكتور والطبيب الجراح يتصل بي هاتفيا، سائلا ما يساعده على فهم مسببات الإخفاق وما يطفئ لظى الغضب المستعر في حنايا القلب، فقد قال لي بتلقائية، «ليس هناك غيرك من ينقذني من زبد التحليلات المندلقة على المواقع وعلى بلاتوهات واستوديوهات التحليل». أذكر أن محادثتنا الهاتفية يومذاك امتدت لنحو نصف الساعة، جددت عهدي بحكمة ورزانة ووطنية الرجل، وقد وجدته يقول لي في نهاية تلك المحادثة الهاتفية:
«أنا أثق في حصافتك وفي حكمتك في نقد الحالة، لا شك أن خيبة الأمل كبيرة، ولكن رجاء لا تدعهم يسقطون الصرح على رؤوسنا، صحيح أننا أخلفنا الموعد مع لحظة تاريخية، إلا أن المستقبل يعد بأشياء جميلة، وحرمة هذا المستقبل تفرض أن لا نعود كعادتنا عند كل إخفاق لنقطة الصفر».
تواعدنا على لقاء قريب، يجمعنا على احتساء كأس قهوة، وقد فرغ كلانا من التزاماته، وما عهدته إلا عائدا لبيته وعائلته منهكا بعد يوم طويل يقضيه في غرف العمليات مؤتمنا من خالقه على حياة الناس.
فجر يوم الإثنين الماضي، قبل نحو ساعتين من صلاة عيد الأضحى، توصلت منه كالعادة بتهنئة العيد مصاغة بعبارات منتقاة من شاعرية طبيب ملهم، فكان ردي عليه مقتضبا «عيدكم مبارك سعيد، الدكتور العزيز».
 طبعا كان في نيتي أن أستغل أي فرصة لأجتمع مجددا بالرجل لاستمتع بنبوغه وشغفه، إلا أنني وأنا منهمك في توضيب هذا العدد الذي يوجد بين أيديكم، سيصلني الخبر الصادم، الذي أتى على ما بقي في الصدر من صبر على نوائب الدهر، وزلزل الأرض من تحت قدمي، لقد رحل عنا الدكتور والطبيب الجراح والإنسان امحمد فارس، رحل شامخا في ثاني أيام عيد الأضحى الذي كان يقضيه كعادته بين الأهل والخلان بمدينة وجدة، لقد اختاره الله في أيام غر ميامين إلى جواره، وما أعظمه من جوار.
أعرف ما مدى كثافة الحزن الذي يخترق اليوم سماء الطب المغربي برحيل الدكتور فارس، وأقدر عمق الأسى الذي يضرب كل من ألفوا طلعته الجميلة وابتسامته المعبرة بمصحة أكدال وبخاصة فريق العمل في جناح جراحة القلب والشرايين، وأعرف جيدا أن المغرب فقد علما من أعلامه، وما لا أجد له صبرا، أنني فقدت في الدكتور امحمد فارس، المرآة التي أرى فيها نفسي بلا زواق، مرآة تعكس الصدق في المشاعر والأحاسيس.
نحتسبك عند الله، ونسأله جل في علاه أن يجزيك عن وطنك وعن كل الذين أعطيتهم بتوفيق من الله أملا جديدا في الحياة خير الجزاء وأسأل لذويك وأهلك وأقربائك الصبر والسلوان، فأنا أعرف جيدا الفراغ الكبير الذي سيتركه رحيلك عنهم، فأنت بالتأكيد، فارس لا يعوض.
إنا لله وإنا إليه راجعون. 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

فارس لا يعوض فارس لا يعوض



GMT 14:13 2019 السبت ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

نهاية شهر العسل

GMT 11:30 2019 السبت ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

البطولة المنسية

GMT 10:48 2019 السبت ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

جنون الريمونتادا

GMT 18:23 2019 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

يا آسفي علينا !!

GMT 19:54 2019 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

الشيخ كومارا استثناء والبقية في مهب الريح

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 08:27 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة
المغرب اليوم - نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة

GMT 08:50 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

الكشف عن قائمة "بي بي سي" لأفضل 100 امرأة لعام 2024
المغرب اليوم - الكشف عن قائمة

GMT 16:38 2016 الجمعة ,23 كانون الأول / ديسمبر

إضافة 408 هكتارات من الحدائق والمساحات الخضراء في بكين

GMT 10:48 2019 السبت ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

جنون الريمونتادا

GMT 12:35 2019 الثلاثاء ,16 إبريل / نيسان

امرأة تعقد عقد جلسة خمرية داخل منزلها في المنستير

GMT 04:14 2019 الخميس ,31 كانون الثاني / يناير

ارتفاع سعر الدرهم المغربي مقابل الريال السعودي الخميس

GMT 10:06 2019 الثلاثاء ,29 كانون الثاني / يناير

الطاعون يلتهم آلاف المواشي في الجزائر وينتشر في 28 ولاية

GMT 03:21 2019 الجمعة ,25 كانون الثاني / يناير

إعادة افتتاح مقبرة توت عنخ آمون في وادي الملوك

GMT 10:21 2019 السبت ,12 كانون الثاني / يناير

فضيحة جنسية وراء انفصال جيف بيزوس عن زوجته

GMT 09:04 2018 الأربعاء ,12 كانون الأول / ديسمبر

والدة "راقي بركان" تنفي علمها بممارسة نجلها للرقية الشرعية

GMT 05:06 2018 الإثنين ,10 كانون الأول / ديسمبر

جمهور "الجيش الملكي" يُهاجم مُدرّب الحراس مصطفى الشاذلي

GMT 06:44 2018 الخميس ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

"Il Falconiere" أحد أجمل وأفضل الفنادق في توسكانا

GMT 00:44 2018 الخميس ,25 تشرين الأول / أكتوبر

اكتشف قائمة أفخم الفنادق في جزيرة ميكونوس اليونانية

GMT 15:10 2018 الإثنين ,13 آب / أغسطس

شركة دودج تختبر محرك سيارتها تشالنجر 2019

GMT 19:15 2018 الأربعاء ,01 آب / أغسطس

يوسف النصري علي ردار فريق "ليغانيس" الإسباني
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib