عريب الرنتاوي
فيما المعركة على مأرب تكاد تطوي فصلها الأخير، فإن الأزمة في إدلب تكاد تفتح آخر فصولها كذلك ... المعركتان حاسمتان لجهة تقرير مصائر واتجاهات الأزمتين اليمنية والسورية.
في التفاصيل، يحقق الحوثي (الجيش واللجان)، اختراقاً استراتيجياً على جبهات القتال في آخر معاقل الشرعية، وأقوى معاقل "التجمع اليمني للإصلاح" وأغنى المحافظات اليمنية وأكثرها "استراتيجية": مأرب ... المعركة التي طالت واستطالت وحصدت مئات الأرواح من الجانبين، تشارف على وضع أوزراها، بعد أن نشب الخلاف بين "جيش الشرعية" و"المقاومة القبلية"، وتباينت أجندات شركاء التحالف الدولي الذي يسعى جاهداً في استلحاق الجبهات الموالية قبل انهيارها، ولكن من دون جدوى على ما يبدو، برغم تسجيل ما معدله ثلاثين غارة جوية يومياً.
الحوثي يستمهل العودة لمائدة المفاوضات، ارتباطاً بمجريات المعركة في مأرب، من يحسم الحرب هناك، يجلس قوياً على مائدة المفاوضات في أية مدينة التأمت ... رسالة تدركها "الشرعية" وحلفاؤها، ويدركها المجتمع الدولي، الذي عجز عن إنجاز وقف شامل لإطلاق النار، فآثر الجلوس على "مقاعد الاحتياط"، بانتظار الحسم في مأرب ... بعد مأرب ليس كما قبلها، والمساعي السياسية والدبلوماسية وجهود الوساطة، ستكتسب زخماً إضافياً في ضوء نتائجها، ونتائجها كما يتضح، باتت تميل لصالح "الشمال"، وإن بعد حين.
سيتعين على الموفدين، الأممي هانس غروندبرغ والأمريكي تيموثي ليندركينغ أن يعكفا على إعداد مسرح التفاوض ومشاريع الحلول، وأن يخففا من جولاتهما المكوكية وجهودهما التي لن تنتهي إلى "مطرح" قبل الحسم في مأرب، ويفضل أن يقف الرجلان جيداً، أمام مراجعة مسار التفاوض اليمني ومرجعياته، فحكاية "المرجعيات الثلاث" كان بعضها ولا يزال، جزءا من المشكلة وسبباً في تفاقهما، إذ لولا المبادرة الخليجية، لما قُطعت طريق ثورة يناير 2011، وقرار مجلس الأمن 2216 (2015) بات جزءاً من ماضٍ سحيق، والحاجة تقتضي مقاربة جديدة ومرجعيات جديدة ومن خارج الصندوق.
في إدلب، شمال شرقي سوريا، موطن "النصرة" التي باتت تعرف باسم "هيئة تحرير الشام"، ومعقل الجماعات الموالية لأنقرة، والملاذ الآمن لكل من انسحب عن خطوط القتال في معارك سوريا وحروبها المتنقلة طوال السنوات الفائتة، الجيب التركي العميق في الداخل السوري، إدلب هذه، مرشحة لصولات وجولات من المعارك، بعد أن فشلت قمة سوتشي الأخيرة بين أردوغان وبوتين في تجسير الهوة بين الرجلين، جراء مماطلة الأول، وربما عجزه عن الوفاء بالتزامات قطعها على نفسه في قمة سابقة: تسليم طريق "إم 4" الرابط بين اللاذقية وحلب للجيش السوري، وفصل غث المعارضة (النصرة وحلفائها) عن سمينها، إن بقي فيها من سمين، خارج الارتباطات الاستخبارية المعروفة، التي حوّلتها، أو قسم منها، إلى جيوش من المرتزقة، غبّ الطلب، للقتال أمام الجيش التركي وحلفائه، من ليبيا إلى أذربيجان.
سُدّت السبل أمام الدبلوماسية في سوتشي فانفتحت أمام خيار "التفاوض بالنار" ... تركيا تحشد وتتهدد وتتوعد على امتداد الشمال السوري، بذريعة مقاتلة إرهاب "قسد" و"بي كا كا" ... والجيش السوري يعزز قواته على مختلف المحاور، وموسكو تطلق الإشارة تلو الأخرى حول حق الدولة السورية في بسط سيادتها على أرضها، ومن ضمنها "إدلب"، وتبادل النيران بلغ الداخل التركي وأودى بحياة جنود أتراك، فيما المدفعية السورية، تقصف على مقربة من "باب الهوى" في اجتياز واضح للخطوط الحمراء، فترد تركيا بالإيعاز لحلفائها بـ"التحرش" بقاعدة "حميميم"، وتنفذ روسيا ضربات جوية بين الحين والآخر لا تخلو من الرسائل.
تركيا في وضع حرج للغاية: لا اتفاق مع #واشنطن ولا توافق مع موسكو، وكلا العاصمتين لا تضمران عداءً لأكراد سوريا ووحدات حمايتها، أردوغان يراقب بعين القلق تهاوي ليرته صوب الحاجز النفسي الأصعب: عشرة ليرات مقابل دولار واحد، وانتخابات 2023 على الأبواب، واستطلاعات الرأي لا تسعفه كثيراً، والتقارير لا ترحم، إن بشأن صحته الشخصية، ومؤخراً بفتح ملف "الاغتيالات السياسية" المزعومة والمقلق، التي احتلت مركز الثقل في السجال السياسي التركي....حرب جديدة على جبهة الجنوب، من شأنها أن تدفع العملة الوطنية والاقتصاد صوب مزيد من التراجعات والانهيارات، والرأي العام التركي، ضاق ذرعاً بالملف السوري بمختلف تداعياته، ومن أبرزها قضية اللجوء واللاجئين.
على أن أردوغان لا يتملك ترف الوقوف ساكناً، سيما بعد أن مُسّت كرامته بالعمليات التي طاولت الداخل التركي ... وهو ليس في وضعية "التسليم" بأن خياراته ورهاناته في سوريا قد سقطت ... لكن الرجل في المقابل، يخشى حرباً جديدة في شمال سوريا، تفضي إلى تدفق المزيد من اللاجئين، ويخشى الوقوف على "الحياد" لأن ترك إدلب للجيش السوري وحلفائه، سيضعه بين نارين: ترك أنصاره لملاقاة مصائرهم المحتومة، أو فتح حدود بلاده لهم، وهم "مثيرو مشاكل" بطبيعتهم وتربيتهم وتجربتهم ... خياران أحلاهما مُرّ.
في المقابل، ثمة ما يشي بأن موسكو لم تعد تتحرك في سوريا بمعزل عن "حد أدنى" من التفاهم مع واشنطن، يبدو أن حوار جنيف الاستراتيجي بين الجانين، يحرز بعض التقدم، وإن جزئياً ... نرى أجواء "إيجابية" تحيط باجتماعات جنيف للجنة الدستورية السورية، ونرى حديثاً وحراكاً روسيين باتجاه عملية سياسية في سوريا، ونرى وساطة نشطة تقودها موسكو بين القامشلي ودمشق، توازياً مع سعي روسي للجم تركيا وأردوغان والحد من طموحاته وامتصاص غلوائه حيال أكراد سوريا، وهو توجه يلقى صدى إيجابياً في واشنطن، التي تعرف تمام المعرفة، أن وجودها العسكري في شمالي سوريا، مؤقت، ومرتبط بوجودها العسكري في العراق في نهاية المطاف.
شمال سوريا الشرقي والغربي، سيحتل مكانة بارزة في نشرات الأخبار وعناوين الصحف قريباً، أما مأرب فإن حسم السيطرة عليها، سيعيد حضور الملف اليمني في الأخبار ثانيةً، ولكن من بوابة الدبلوماسية هذه المرة، وليس من باب المعارك والمسيّرات والصواريخ الباليستية، وسيتسارع المساران معاً، إن قُدّر لقناة بغداد الخلفية للمحادثات السعودية الإيرانية أن تتقدم، وهي تتقدم على ما يبدو، ولمسار فيينا النووي أن يُستعاد من جديد، وهو أمر ما زال في علم الغيب.