بقلم -عريب الرنتاوي
أسئلة من نوع: "ماذا سيحدث للسعودية عندما يتوقف النفط؟"، "ما الذي ستفعله المملكة عندما تستيقظ على نفاذ نفطها؟" ..."السعودية بلا نفط؟" وكثير غيرها، كانت محور نقاشات وتحليلات على الشاشات الفضية وفي العديد من الصحف والمواقع العربية والدولية خلال الأيام والأسابيع القليلة الفائتة...وهي على تنوعها، واختلاف الزوايا التي تصدر عنها، أو تنظر إليها، إلا أنها تلتقي جميعها عند سؤال جوهري واحد: "ما الأثر الذي سيتركه نفاذ النفط أو فقدانه لقيمته على السعودية، داخلياً وخارجياً؟".
هذه الموجة من الأسئلة والتساؤلات، وإن كانت ارتفعت على وقع انهيار أسعار النفط مؤخراً...إلا أنها سابقة لجائحة كورونا و"حرب الأسعار" بين موسكو والرياض، وإرهاصات ركود اقتصادي عالمي جديد، يقارن بالركود الكبير قبل 90 عاماً، وليس بركود العقد الفائت...فاحتياطات المملكة من العملات الأجنبية تراجعت من 732 مليار دولار عندما تولى الملك سلمان ونجله مقاليد الحكم في العام 2015 إلى 499 مليار دولار نهاية العام الفائت (البعض يقترح الرقم 464 مليار هذا العام)، أي أن هذه الاحتياطيات كانت تنفذ بمعدل يقارب 60 مليار دولار سنوياً، قبل أن اندلاع حرب الأسعار وشيوع الجائحة، وغالباً لأسباب تتعلق بحروب المملكة وصراعاتها وبرامج التسلح الفلكية التي اعتمدتها، وستشهد هذه الاحتياطات هبوطاً هو الأسرع منذ عشرين عاماً (27 مليار دولار خلال الربع الأول من هذا العام)، لتصل إلى أدنى مستوى لها منذ العام 2011، وستعمد المملكة إلى سحب 32 مليار دولار إضافية من احتياطيها، واستدانة ما يقرب من 60 مليار دولار إضافية لتغطية عجز موازنتها (2020)، بعد أن خسرت ما بين 8-10 مليار دولار من عوائد مواسم الحج والعمرة المُعطلة هذا العام.
أما صندوق الثروة السيادية السعودية (320 مليار دولار) فيقل قليلاً عن نظيره في دولة قطر الصغيرة، وهو أقل بكثير من الصندوق السيادي الكويتي، ويكاد يعادل ثلث المحفظة الإماراتية...الشيء ذاته يقال عن الدين العام للمملكة المتوقع أن يرتفع إلى ما نسبته 20 بالمائة هذا العام، وربما إلى 27 بالمائة السنة المقبلة، و50 بالمائة في السنة التي تليها وفقا لتقديرات خبراء ومؤسسات مالية عالمية...تزامناً مع تراجع في معدلات دخل الفرد، والتي سبق لها أن شهدت هبوطاً عن مستواها في العام2012.
ماذا تعني هذه الأرقام؟
هي أولاً، أرقام متحركة باستمرار، كون المصدر الرئيس للدخل والثروة في المملكة، يتأتى من إيرادات النفط والغاز، وهما سلعتان لم تفقدا قيمتها الاستراتيجية بعد، وإن كان النفط على نحو خاص، معرض لموجات اهتزاز متعاقبة، ستجعل من الصعب على المملكة الوصول إلى "سعر التعادل" والمقدر بحوالي 84 دولار للبرميل الواحد...ومرد ذلك عائدة لأسباب عديدة، منها دخول دول عديدة على نادي منتجي النفط ومصدريه، تطور صناعة النفط الصخري، والارتفاع المتزايد لمساهمة الطاقة المتجددة في سوق الطاقة العالمي...وإذا كان صندوق النقد الدولي قد اقترح العام 2034 كنقطة تحول من الكفاية إلى العجز بالنسبة للدول الخليجية، فإن "حرب الأسعار" والزيادة الهائلة في المعروض والمخزون من النفط، وجائحة كورونا والركود الاقتصادي العالمي الذي بدأ يطل برأسه على الاقتصادات العالمية، ستجعل نبوءة الصندوق متفائلة للغاية.
لسنا نبالغ إن قلنا إن العقد الثالث من القرن الجاري، ربما يكون العقد الأخير للنفط كسلعة استراتيجية حاكمة للأسواق والاقتصادات العالمية...ليس لنضوب آبار النفط، بل لتراجع الحاجة إليه، وزيادة المعروض منه بصورة كفيلة بـ"حرق" أسعاره...ومثلما انتهى العصر الحجري والكرة الأرضية مليئة بالحجارة، فقد ينتهي العصر النفطي وآبار النفط تزخر بـ"الذهب الأسود".
أية تداعيات داخلية وخارجية؟
على الرغم من أن دعوات "تنويع مصادر الدخل" في المملكة والخليج عموماً، تعود لأكثر من خمسين عاماً خلت، إلا أن جهداً حقيقياً لم يبذل من أجل تحقيق هذه الغاية، سيما حين كانت تتوفر لحكومات هذه الدول، موارد مالية هائلة، في أزمنة الصعود الفلكي للأسعار...ومع مجيئ ولي العهد السعودي للسلطة، عاودت قضية "التنويع" لتحتل صدارة الخطاب السعودي، وتحديداً بعد الكشف عن خطة 2030، لكن الخبراء والمراقبين، يعتقدون أن النجاح لم يحالف محمد بن سلمان لتنفيذ رؤيته، وأن الإدارة السياسية والاقتصادية التي اعتمدها، إلى جانب "سوء الطالع"، تضع الرؤية و"درة تاجها"، مشروع "نيوم" في مهب الريح.
فالمملكة تحت قيادة الأمير الشاب، تخوض حروباً مكلفة على أكثر من جبهة، أهمها الصراع مع إيران والحرب في اليمن، فضلاً عن الصراعات الاقتصادية والسياسية مع أطراف أخرى (قطر وتركيا على سبيل المثال) وحروب الوكالة في أكثر من ساحة (العراق، سوريا، لبنان، ليبيا) ...هذه الاشتباك متعدد الجبهات، وضعت المملكة في أمس الحاجة لزيادة إنفاقها العسكري والدفاعي، وسحب مئات المليارات من الدولات لتغطية أثمان السلاح المتطور، ودفع تكاليف الانتشار العسكري الأمريكي والغربي على الأراضي السعودية.
هذه الكلف الباهظة للسياسة الخارجية، وما تسببه من "عدم الاستقرار" أفضت إلى عزوف الاستثمارات والمستثمرين...وهي ظاهرة مرشحة للاستمرار والتفاقم، في ظل سياسات داخلية تتسم بالقمع والقبضة الحديدة ضد الخصوم والمنافسين، من داخل العائلة والمؤسسة الدينية وقطاع الأعمال ونشطاء المجتمع المدني والحركة النسوية، وبالذات بعد جريمة اغتيال الصحفي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول، واحتجاز رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري وإرغامه على الاستقالة...كل ذلك، أسهم ويسهم في وضع المزيد من العراقيل أمام خطط "تنويع" الاقتصاد، وألقى بأعباء مالية واقتصادية على المملكة، ربما تكون غير مسبوقة، منذ مطلع سبعينات القرن الفائت.
تُبقي هذه الظروف المملكة أمام خيارات جميعها صعبة: تأجيل أو إلغاء العديد من المشاريع الرأسمالية العملاقة، بما فيها مشروع "نيوم"، سيما بعد الهبوط القياسي لأسهم "أرامكو"...الإقدام على تخفيض الإنفاق على الرعاية والخدمات...فرض مزيد من الضرائب والرسوم على المواطنين والمقيمين...التوسع في الاستدانة من مصادر داخلية وخارجية.
يعني ذلك، من ضمن ما يعني، أن عصر "دولة الريع والرفاه" في طريقه إلى نهايته، مؤذناً بنهاية "نظام البيعة" واحتكار السلطة المطلقة في الأسرة الحاكمة، أو حلقة ضيقة منها كما اتضح مؤخراً...يعني ذلك أن عصر "الرعية" قد انتهى ليحل محله عصر "المواطنة"، وأن مفهوم "المكرمات" سيخلي مكانه لصالح مفاهيم "الحقوق" و"الحريات"...يعني ذلك أن المواطن، دافع الضريبة، سيكون له الحق في المطالبة بالتمثيل والمشاركة في صنع السياسة والقرار “No taxation without representation”...النظام السياسي في المملكة سيجد نفسه أمام مفترق لم يعرفه في تاريخه.
يعني ذلك أيضاً، أن "الأسرة الحاكمة" لن تستطيع مواصلة الحكم بالأنماط والأدوات القديمة، وأن "ديناميات جديدة" ستنشأ وستفعل فعلها، وستثير معها أسئلة "الهوية" و"الحقوق الفردية والجماعية" لمكونات المجتمع السعودي...ففي التجربة التاريخية، تبقى الأمم والشعوب، وتزول "السلالات" و"العائلات" الحاكمة، حتى وإن قضت على رأس السلطة عقوداً وقروناً من الزمان...الشعب العربي في الجزيرة، قَبِلَ التَسمّي باسم العائلة وإضفائه على "هويته الوطنية"، ودائماً بقوة "السيف" و"الثروة"، فهل يستمر هذا الوضع كما هو عليه في مرحلة "ما بعد النفط"، سيما وأن هذا المجتمع مكوّن من هويات مركبة، وقائم على التعددية الدينية والثقافية والاجتماعية.
"سعودية بلا نفط"، تعني تراجعاً حاداً في مستوى اهتمام العالم بأمنها وسلامتها واستقرارها... فالجيوش التي طالما هرعت لحمايتها من التهديدات الداخلية والخارجية، فعلت ذلك، حرصاً على النفط انتاجاً وتصديراً وطرق إمداد، وليس كُرمى لعيون أحد على الإطلاق...وضع كهذا، سيفتح من جديد، ملفات خلافية بين الشقيقة الكبرى وشقيقاتها في الجزيرة، من العراق شمالاً إلى اليمن جنوباً، مروراً بدول مجلس التعاون الأخرى، وسيضع المملكة في مكانة استراتيجية أدنى، في صراعاتها وحروبها الإقليمية، ليس في مواجهة إيران وتركيا فحسب، وإنما على مستوى العالم العربي كذلك، بعد أن تكون فقدت أهم "سلاح" بيدها.
هل من بدائل للسيناريو الأسوأ؟
الجواب نعم، بيد أنه يتطلب قدراً هائلاً من العقلانية والتجرد والرشاد، إن لجهة إدارة المال والاقتصاد والسياسة الداخلية وتسريع عملية "تنويع" مصادر الدخل والثروة...أو لجهة فتح النظام السياسي للمشاركة وإشاعة الحريات والاعتراف بالحقوق وتعظيم مبادئ المواطنة وسيادة القانون، والانتقال من دولة "الريع" إلى دولة "الإنتاج"، إلى غير ما هنالك من أفكار لا تتسع لها هذه المقالة.
الجواب نعم، شريطة أن تعمد المملكة إلى حل نزاعاتها وصراعاتها مع جوارها العربي والإقليمي، بالطرق السلمية والتفاوضية، الآن وهي في موقع أفضل، قبل أن ترغم على فعل ذلك، بشروط أسوأ...ولعل تجربة "حرب السنوات الخمس" في اليمن، ما يكفي من العبر والدروس، لما ينبغي أن تكون عليه السياسة الخارجية للمملكة.
هل تفعلها المملكة؟ ...الجواب كما يقول بعض الأصدقاء السعوديين في جعبة ولي عهدها، لأنه سيمكث على كرسي العرش لخمسين سنة قادمة، إن كتب الله له عمراً مديداً...فإن كانت هذه رهاناتهم ورهاناته، فاقرأ على المملكة السلام.