عريب الرنتاوي
تهيمن نظرية ”تقليص الصراع“ بشكل متزايد على تفكير ”النخب السياسية والأمنية“ الحاكمة في إسرائيل، بالذات في عهد حكومة بينت – لبيد، ”حقوق الملكية الفكرية“ لهذه النظرية تعود لأستاذ التاريخ الإسرائيلي ميخا غودمان، في كتابه ”مصيدة 67“ وفي عدد من المقالات التي نشرت له بالفرنسية، وهو صديق مقرب من بينت، ومستشار غير مُعيّن رسميا لرئيس حكومة الائتلاف.
تنهض نظرية “Shrinking the Conflict”، على جملة فرضيات، منها: ”الإجماع الخفي“ بين مختلف التيارات السياسية والإيديولوجية في إسرائيل حول الحاجة للانفصال عن الفلسطينيين وضرورة الاحتفاظ بأرضهم، وإدارة الصراع عبر ”تقليصه“ بدل حله، واستبعاد فكرة الحل النهائي التوافقي الناجم عن مسارات تفاوضية معقدة بين الأطراف.. وبهذا المعنى، تلبي ”النظرية“ رغبة اليسار واليمين بالانفصال عن الفلسطينيين، وتمكّن اليمين من الاحتفاظ بـ“القدس ويهودا والسامرة“، وتسهم في الوقت ذاته، في خلق ”الانطباع“ لدى ثلاثة ملايين فلسطيني في الضفة الغربية، بأنهم يتدبرون أمر معاشهم وحياتهم اليومية، بعيدا عن الاحتلال وبمعزل عن الاحتكاك بقواته ومستوطنيه، حتى وإن كان انطباعا زائفا.
وثمة موقع إلكتروني رائج في إسرائيل، يحمل الاسم ذاته “Shrinking the Conflict”، يروّج للنظرية، ويحمل شعار: ”خطوات صغيرة بأثر كبير“…أما عأدوات ترجمتها، فتقوم على ”ربط“ جزر الأرخبيل الفلسطيني بعضها ببعض بشبكة معقدة من الطرق والأنفاق والجسور، تديرها سلطة فلسطينية، وتمكن الفلسطينيين من التنقل في عموم الضفة، من دون الاحتكاك بحواجز الجيش أو المرور بمستوطني الضفة، وتفترض توسعة جسر الملك حسين لتسهيل سفر الفلسطينيين للخارج، وزيادة التصاريح الممنوحة للعمال الفلسطينيين للعمل داخل ”الخط الأخضر“، وإنشاء محطة ركاب في الضفة لتمكينأهلها من استخدام مطار بن غوريون، فضلا عن تسهيلات في التجارة عبر الموانئ الإسرائيلية، وزيادة الصادرات والواردات الفلسطينية، بمعزل عن ”اتفاق باريس الاقتصادي“.
النظرية تغرف من سلة ”السلام الاقتصادي“ لبنيامين نتنياهو، وكلتاهما تلحظان احتفاظ إسرائيل بسيادتها على الأراضي الفلسطينية المحتلة، بيد أن الأولى تضيف للثانية، هوامش حركة أوسع للفلسطينيين داخل ”فقاعات“سلطتهم وكيانهم القائم حاليا، ولا تستبعد توسعة حدود المنطقتين (أ و ب)، بنسبة 2-5 بالمئة، للتوسعة العمرانية وإنشاء مدن صناعية لتوظيف فائض العمالة الفلسطينية.
والنظرية تدعو إسرائيل لضم جهودها إلى جهود السلطة الفلسطينية من أجل الاعتراف بدولة فلسطينية، ولكن من دون تعريف حدودها، تماما مثلما حصل مع إسرائيل التي تحظى باعتراف 160 دولة من دون أن تكون لها حدود وخرائط نهائية كسائر دول العالم.
ميزة هذه ”النظرية“ أو خطورتها بالأحرى، تكمن في كونها لا تتطلب الدخول في مسار تفاوضي حول النهائي، ولا تشترط تخلي الفلسطينيين عن مطالباتهم المعروفة في الحل النهائي (القدس، عودة اللاجئين، أو الانسحاب الكامل)، كما أنها تسقط عنهم عبء الاعتراف بـ“يهودية الدولة“ الذي أصرت عليه حكومات إسرائيل الأخيرة … بل وقد يكون بمقدور السلطة أن تنسب الفضل في تحسين ظروف حياة الفلسطينيين لـ“حكمتها وحنكتها“ الدبلوماسيتين، طالما أنها لم تُقدّم رسميا، أي تنازلات إضافية (؟!).
ومن عناصر قوتها أيضا، أنها تلتقي مع مقاربة إدارة بايدن في إخماد الصراع وإطفائه، عبر ما يسمى بإجراءات بناء الثقة على محور الضفة الغربية والتهدئة على جبهة قطاع غزة، وهي ”بديل“ لبعض الأطراف الفلسطينية والإقليمية والدولية، عن العجز والفشل في ترجمة ”حل الدولتين“، يمكّنها من تفادي السقوط في ”الفراغ“، والزعم بأنه ”بديل انتقالي“، مع أنه من منظور إسرائيلي، هو ”الحل النهائي“ بذاته.
وبالحديث عن غزة وتهدئتها، يمكن القول إن القطاع مشمولٌ بدوره بـ“تقليص الصراع“ وله ترتيب آخر، بالنظر لخصوصيته واختلاف موقعه في الاستراتيجية والإيديولوجيا الصهيونيتين، ودائما من بوابة ”التهدئة“ بمختلف مندرجاتها، وأهمها ضمان عدم تمكين حماس من إعادة ملء مستودعاتها بالصواريخ والقذائف والقواذف، وقيام الأخيرة بدورها في حفظ الأمن والاستقرار، نظير مساعدات إنسانية وتسهيلات في ملف إعادة الإعمار …وإذا كان نفتالي بينت هو الأكثر انشغالا بتقليص الصراع في الضفة، فإن بيني غانتس، صاحب نظرية ”الاقتصاد مقابل الأمن“، هو المولج أكثر من غيره، ومن موقعه كوزير للدفاع، بملف القطاع.
نظرية ”تقليص الصراع“ ليست جديدة كل الجدّة، فبعض عناصرها وفرضياتها، مبثوث في الخطاب السياسي والإيديولوجي لأحزاب إسرائيل … وترجمتها ليست معلقة على شرط موافقة الفلسطينيين عليها، فنحن نرى ترجمة متدرجة لبعض عناصرها ومحاورها منذ أن تشكلت الحكومة الإسرائيلية الجديدة … وهي فوق هذا وذاك، لا تقطع مع المستقبل باحتمالاته المفتوحة، ومن بينها انخراط ”الكيان الفلسطيني“ الناشئ بعلاقة كونفدرالية مع إسرائيل أو الأردن، أو كلاهما معا في إطار بينلوكس ثلاثي الأبعاد… لا أحد من أنصار هذه اللعبة مشغول بـ“خط النهاية“، فالأكثر أهمية هو ”خلق سياق“ تذوب فيه مع الوقت، وبالتدريج، مطالب الفلسطينيين وتتبدل أولوياتهم.
أخيرا، فإن نظرية ”تقليص الصراع“ تبني على خلاصة خبرة إسرائيلية متراكمة، في تحويل المؤقت إلى دائم، والانتقالي إلى نهائي … ترتيبات أوسلو المؤقتة والانتقالية، باتت هي ”الحل النهائي“ من منظور إسرائيل، لكن ما تفوّته هذه النظرية وأصحابها، أنها وأنهم، لا يأخذون بنظر الاعتبار كفايةً، خلاصة الخبرة الفلسطينية المتراكمة والمديدة، فإدارة الصراع عبر تقليصه، يمكن أن تنجح لبعض الوقت مع بعض قطاعات الشعب الفلسطيني، لكنها لا تنجح، ولن تنجح طوال الوقت، مع شعب انتفض في أيار 2021 محتفيا على طريقته، بمئوية أولى انتفاضاته: هبة أيار 1921.