بقلم :عريب الرنتاوي
إن لم يكن الحدث الأفغاني هزيمة نكراء للولايات المتحدة و"الناتو" وحلفائهما، فما هي الهزيمة إذن؟ ... هزيمة لم تستطع كلمات الرئيس بايدن المرتبكة والمتلعثمة، محو آثارها أو التقليل من وطأتها ... حتى "حرب الصورة" التي حرصت واشنطن على تفادي خسارتها، حين أصدرت تعليماتها لطاقم سفارتها في كابول بحرق كل قصاصة عليها شعار السفارة أو خاتمها، حتى لا تستغل من قبل طالبان، حتى هذه الحرب خسرتها واشنطن، بعد بث المشاهد "المرعبة، المخزية" من مطار كابول، وتساقط جثث أصدقاء واشنطن من الأفغان، من السماء وتحت عجلات طائرات الإخلاء...ولا أدري لماذا انتابني إحساس وأنا أرى الجموع تزحف صوب مطار كابول طلباً للنجاة، بأن هؤلاء ليسوا مترجمين ومتعاونين فحسب، بل وقادة المجتمع المدني الأفغاني الذي عاش عقدي ازدهار، متكئاً على الأوهام والوعود والتعهدات التي داستها عجلات الطائرات الأمريكية العملاقة.
المهووسون بـ"نظرية المؤامرة" تحدثوا عن سيناريو معد من "غابر الأزمان" يقضي بإجراء عملية استلام وتسلم بين القوات الأمريكية ومقاتلي طالبان، والهدف "التآمر" على الصين وروسيا وإيران، ولقد تغذّت هذه النظرية بتصريحات خرقاء للرئيس بايدن، قال فيها أن الصين وروسيا لا تريدان شيئاً أكثر من غرق واشنطن في حرب استنزاف أفغانية لقواتها ومواردها في بلاد الأفغان ... مثل هذه النظرية، لا تصمد طويلاً أمام إجماع المراقبين والمحللين والخبراء، القديم الجديد، بأن طالبان ستعاود سيطرتها على أفغانستان ما أن تكمل القوات الأطلسية انسحابها عنها، ولقد ذكرني صديق بمقال قديم للغاية، كنت قلت فيه: "هزمت طالبان في أقصى الأرض ولكنهم من بعد غلبهم سيغلبون"، ليست نبوءة، ولكنها سنة الحياة وقوانين الحرب والصراع، سيما في أفغانستان، مقبرة الامبراطوريات، وفقاً للقول الذائع الذي عاد بايدن لتذكيرنا به.
صحيح أن دخول كابول نظمته ترتيبات أبرمت في الدوحة، لكنها ترتيبات ربع الساعة الأخير، أملتها حاجة واشنطن لانسحاب وإجلاء آمنين، ورغبة طالبان في استعادة العاصمة الكبيرة، من دون عناء أو تضحيات أو مجازر ... هذا لا يعني أن المشهد الأفغاني مُعدّ برمته، وفقاً لسيناريوهات نظرية المؤامرة ... في أفغانستان، ثمة فريق منتصر وآخر مهزوم، ومن الحمق السعي لإخفاء هذه الحقيقة، حقيقة أن واشنطن هزمت تماماً، وأن طالبان سجلت فوزاً مؤزّرا ... لا يمكن إخفاء أوجه الشبه بين كابول 2021 وسايغون 1975، مع الفارق، والفارق هنا في صالح طالبان، فهي تهزم الإمبراطورية الأعظم في "عزّ" نظام القطب الواحد، بينما هزم "الفيتكونغ" الولايات المتحدة، في ذروة الحرب البادرة، وبدعم كثيف من قطبين دوليين: روسيا والصين ... طالبان لم تتمتع بهذه الحظوة.
(2) أخوات أفغانستان
ليست أفغانستان استثناءً ... ما حدث فيها وفي عاصمتها، وقع أمرٌ مثله في العراق وعاصمته الثانية: الموصل، قبل سبع سنوات، عندما هُزم الجيش العراقي هزيمة نكراء أمام بضعة مئات من مقاتلي داعش، برغم الإنفاق الأمريكي الهائل على بناء جيش جديد، على صورة "مارينزها" ... قصة الخيبة الأمريكية في أفغانستان، سبقتها خيبة أمريكية في العراق ... فساد الطبقة السياسية والأمنية التي جاءت على ظهور الدبابات هنا وهناك، كان سبباً في انتصار طالبان، وفوز داعش قبل اندلاع الحرب الكونية على الإرهاب...ولولا فتوى "الجهاد الكفائي" وظهور ما سيعرف لاحقاً بفصائل الحشد الشعبي، لكان الخليفة البغدادي في بغداد اليوم، ولتطابق الاسم على المسمى، قولاً وفعلاً .... جيوش بلا عقيدة قتالية، جيوش غير وطنية، أقرب لصيغ بلاك ووتر، ليس لهم من خبرات الجيش الأمريكي وقدراته القتالية، سوى عربات الهامر والهامفي والخوذ المدججة بأجهزة الرؤيا الليلية ووسائل الاتصال.
نأمل أن يكون العراق قد تعلم دروس "التجربة المرة" في 2014، وأعاد بناء قواته المسلحة وفقاً لعقيدة جديدة، وعلى أسس وطنية لا مذهبية، وخارج إطار التجاذبات السياسية، وبمعزل عن نظرية "الانسان العراقي الجديد"، وهي ذاتها النظرية المتفرغة عن نظرية "الانسان الفلسطيني الجديد، للجنرال كيت دايتون، كما عرض لها ذات جلسة استماع في الكونغرس، وهي النظرية التي جعلت "انقلاب" حماس في غزة 2007، لا يخرج عن نظرية "مسافة السكة" المصرية المعروفة.
قوات "الشرعية" بإمرة عبد ربه منصور هادي، ليست بعيدة عن هذه "المدرسة" في تأسيس الجيوش العربية الحديثة، لم تسجل نصراً في أية معركة جدية، لا مع الحوثي ولا مع "الانتقالي"، ولولا ميليشيات ووحدات شبه نظامية، تتبع الإخوان والسلفيين في بعض المناطق والجبهات، لكانت الهزيمة أشد نكراناً، مع أن "جيش الشرعية"، خضع لما خضع إليه جيش أفغانستان من تدريب وتمويل، وبُني في سياقات مشابهة.
حتى الجنرال العجوز، االمختال في متاهته في شرق ليبيا، ليس بعيداً عن هذا المسار، ولولا "فاغنر" و"الجنجويد"، وشرايين الداعم الخارجي المفتوحة على اتساعها، لم صمد يوماً واحداً، ولما أمكن له حشد المزيد من الأوسمة على صدره ومنكبيه العريضين.
الخلاصة، أن كثرة من القادة العرب، من الدول المذكورة وغيرها، ربما يكونوا قضوا ليلة غير سعيدة، بعضهم لم يغمض له جفن، وبعضهم الآخر تقلب في فراشه الوثير لساعات، قبل أن تداهمه إغفاءة مثقلة بالكوابيس
(3) إعادة حساب
ربما تكون عواصم عدة قد شرعت في إجراء عملية إعادة لحساباتها، سنكتفي هنا بتناول دولة ومنظمة، أما الدولة، إيران، فهي بالقدر الذي تخشى التطورات الأخيرة عند جارتها المُتعَبة والمُتعِبة، إلا أنها لن تعدم وسيلة لتحويل التحدي إلى فرصة، لكن من السابق لأوانه، الجزم بما إذا كانت ستنجح أم لا، وتلكم مهمة أوكلت إلى محمد جواد ظريف بالتعاون مع إسماعيل قاآني ... على أن الأكثر أهمية من جدل الاحتمالات، هو كيف سيقرأ المفاوض الإيراني في فيينا درس الهزيمة الأمريكية في كابول، وما هو أثرها على مواقف المتفاوضين حين يلتئمون حول مائدة المفاوضات الشهر المقبلة، وهل سيقضون المزيد من "ليالي الأنس" على ضفاف الدانوب الأزرق، أم أن إيران ستخرج بنتيجة مفادها: إن واشنطن لا تفهم إلا لغة القوة، والقوة الأعظم، قادرة على ابتلاع هزائم نكراء، فلماذا نعطيها ما لم تحصل عليه، حتى من منظمة فقيرة، مثل طالبان؟
أما المنظمة التي يتعين مراقبة سلوكها، فهي حماس، وكيف ستقرأ الدرس الأفغاني ... لقد رأينا صوراً تجمع قادتها بقادة طالبان، وقرأنا رسائل تهنئة بالنصر الطالباني المبين ... أي درس ستتعلمه حماس: تصعيد المقاومة ضد إسرائيل أم رفع منسوب التشدد في حواراتها مع السلطة؟ ... هل تنتكس حماس عن خيار "الديمقراطية والانتخابات" بوصفها شعارات فارغة ووعود زائفة، كما قال موسى أبو مرزوق في أول تغريدة له على وقع الحدث الأفغاني؟ ... سلوك حماس، على محوري التهدئة مع إسرائيل والمصالحة مع السلطة، أمر يستحق الاهتمام والانتباه.
بالطبع، ليست إيران وحماس هي من يعيد حساباته، هناك عواصم تخصصت بالعداء الأشد للإسلام السياسي في منطقتنا، في ظني أن الكوابيس داهمت قادتها، وقضّت عليهم مضاجعهم، فهل نرى مقاربات أكثر اعتدالاً وتوازناً وعقلانية؟
في المقابل، تألقت قطر، بوصفها منصة الحل والتسويات والصفقات بين مختلف الأطراف، والدوحة تجني ثمار مراجعاتها لأدوارها و"إعادة تموضعها" في نزاعات الإقليم على اتساعه، أمرً شهد به وزير خارجية الأردن وأشاد به، وأثار غيرة الجارة الصغيرة، التي بادرت من دون استئذان أو تنبيه، للدعوة إلى مؤتمر دولي حول أفغانستان في المنامة ... مضحك كيف تتصرف دول كما الأطفال في دور الرعاية والحضانة، ولو بعض من حياء، لاستعنا بمثل شعبي أردني، يليق أكثر من غيره، بوصف سلوك كهذا.
وللحدث الأفغاني حديث آخر