ادفنوا شهدائكم وانهضوا

ادفنوا شهدائكم وانهضوا

المغرب اليوم -

ادفنوا شهدائكم وانهضوا

بقلم : عريب الرنتاوي

أن ينظر بعض "الإسلامويين" لمسيحيي بلدانهم، نظرة تحقير دونية أو كصنف آخر من البشر من الدرجة الثانية، فذلك أمر ندرجه في سياق منظومة ثقافية لا تعترف أصلاً بمفهوم "المواطنة" وترى إليه بوصفه مفهوماً دخيلاً على الإرث الإسلامي ... وأن يسترسل هؤلاء في "شيطنة" المسيحيين وإخراجهم من دائرة "الرحمة الإلهية"، بوصفهم كفرة ومشركين، فذلك ما ندرجه في سياق "التحريض" والترويج لـ "ثقافة الكراهية" ... وأن يتطور الأمر عند بعضهم لحد استهداف المسيحيين وكنائسهم، بالقتل والحرق، فهذا ما ندرجه في سياق الإرهاب الموصوف، الذي يستحق أعلى درجات العقاب وأشدها.

لكننا نحار تماماً، ولا ندري كيف، أو أين ندرج هؤلاء الذين بلغت بهم كراهية "الآخر في الدين" حد ممارسة "الانتحار" في كنائسهم وجوارها، لقتل أكبر عدد منهم، في يوم عيدهم؟ ... لا ندري أية منظومة فكرية – تعبوية، تقنع شاباً من هؤلاء، بوضع حد لحياته بيديه، وتحويل جسده إلى "قنبلة عنقودية"، تتطاير شظاياها فتقتّل الأطفال والنساء والرجال، وهم في حمأة الاحتفال بالعيد، يرتدون أجمل ملابسهم ويرتلون صلواتهم وأدعيتهم؟

هل سُدّت الطرق الأخرى للجنة، كالعبادة والصلاة والتقوى والورع وقيام الليل وصوم الشهر وحج البيت والموعظة الحسنة والكلمة الطيبة، ولم تعد ثمة من طريق سالكة لجنان الخلد، إلا تلك التي تمر فوق أنقاض الكنائس وأشلاء المسيحيين؟ ...  ما الذي دار في خلد هذا "الانتحاري" وهو يرصد ويتحضر ويستعد ويجمع العبوات والمسامير لضمان قتل أكبر عدد ممكن من المصلين والمحتفلين؟ ... ما الذي كان يعتمل في دماغه وهو يتسلل إلى داخل الكنيسة ويسعى في شق الصفوف للوصول إلى أكبر مركز احتشاد لروّادها؟ ... ما الصورة التي تراءت له، وهو يضغط على "زر" التفجير، موقناً أن جسده سيتطاير مزقاً وشظايا بعد أجزاء من الثانية، مزهقاً عشرات الأرواح وتاركاً عشرات العائلات الثكلى وأعداداً لا تحصى من المصابين بأجسادهم وأرواحهم؟

هل ثمة في إرثنا الإسلامي، مصادر على هذا القدر من "الحقد" و"الظلامية" لينهل منها هؤلاء كل ما يسوغ إجرامهم ويبرر أفعالهم السوداء؟ ... إن كان الأمر كذلك، فأين العلماء والمفكرين وأين دورهم في إطفاء هذه البؤر وتجفيف تلك المصادر... أين دورهم وعملهم على انتزاعها من عقول أبنائنا، وتسميتها بأسمائها، كمنابع لثقافة القتل والكراهية والعداء للآخر والقتل المجاني الجماعي، من دون "رتوش" ولا تحسينات بلاغية، لفظية أو معنوية ... وإن كان الأمر كذلك، فلماذا كل هذا التردد في تنقية التراث وتقطيع طرق انتشاره وتمدده، فنحن كلما أكثرنا من الحديث عن محاربة التطرف، كلما صدمنا بأجيال أكثر تطرفاً، وكلما كسبنا معركة على المتطرفين، كلما بدا أننا نخسر الحرب معهم، فكيف الخلاص من هذه الحلقة الشريرة، وكيف يمكن أن ننقذ أنفسنا ومستقبلنا من بطش هؤلاء وإرهابهم ومعاولهم السوداء، التي لا تنفك تقطع أواصرنا وصلاتنا وتدمر نسيجنا، وتضرب في صميم أعماقنا وأرواحنا وضمائرنا وما تبقى من انسانيتنا.

أن يقتل أحدهم أطفالاً في عيدهم، فرحين بثيابهم وألعابهم والحلوى التي تنتظرهم، فهذا سلوك مرضي لا يصدر إلا عن مريض، لا يخضع أبداً لمعايير البشر ولا تنطبق عليه أي من سمات الإنسانية ... لكن أن يجعل أحدهم من جسده قنبلة لقتل هؤلاء وتمزيق أجسادهم الطرية الغضة، فتلكم حالة اعترف بأنني عاجز عن توصيفها، ولا تسعفني اللغة ولا "التحليل النفسي أو السياسي" في تقديم توصيف دقيق لها.

يوم المذابح المتنقلة في كنائس مصر، الذي اختير بعناية شريرة فائقة، في عيد الشعانين، مناسبة لتذكيرنا بما تقاعسنا كسلاً أو تواطؤاً أو جبناً عن القيام به من مهمات في التصدي لهؤلاء ... وهو تذكرة لنا جميعاً، بما حصل في العريش وسيناء قبل أسابيع، وبما يحصل طوال الوقت في مدن سوريا والعراق ضد "الاخر في الدين والطائفة والمذهب" ... هو تذكرة لنا نحن اللاهين في يومياتنا الفارغة من أي معنى، بأن لا مستقبل لهذه المنطقة، ولا امن لها أو استقرار، بوجود هؤلاء، أو من يشبهم أو يشاطرهم في ثقافتهم، أو من يبرر أعمالهم، أو من يدير ظهره ويشيح بنظره عن جرائمهم.

وأي "لكن" في إدانة هذه المقتلة، ستندرج في سياق التواطؤ مع القتلة ... فلا عسف النظام وجبروته يسمح بهذه "اللكن"، ولا نتائج زيارة رأس النظام لواشنطن، تجيز "لاكناً" من هذا النوع، ولا موقفه المختلف من الأزمة السورية، مقبول كعذر ومبرر لإشهارها ... إدانة هذه الجرائم فريضة عين على كل مواطن ومواطنة، في مصر وخارجها، لكنها الإدانة غير المشروطة، التي يتعين أن تكون بداية المشوار لا نهايته، فالطريق لاجتثاث هذا "الطاعون" ما زالت مديدة ومريرة، وسيسقط على جانبيها ألوفٌ مؤلفة من الأبرياء، ومن كل الأديان والطوائف والمذاهب، فهؤلاء لا يستهدفون المسيحيين فحسب، هم كالنار التي سيصلون بها، تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله.

فاتنا أن نهنئ مسيحيي بلداننا بالعيد، لكن الجريمة المزدوجة النكراء، تجعل التهنئة واجبة علينا وعلى كل من تبقت لديه ذرة من اخلاق وضمير ... كل عام وأنتم بخير، ولن تمنعنا ثقافة الكراهية السوداء، من أن ندفن شهداءنا وننهض.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ادفنوا شهدائكم وانهضوا ادفنوا شهدائكم وانهضوا



GMT 07:14 2021 الجمعة ,24 كانون الأول / ديسمبر

"العالم المتحضر" إذ يشتري البضاعة القديمة ذاتها

GMT 06:17 2021 السبت ,18 كانون الأول / ديسمبر

"فتح" و"حماس" ولبنان بينهما

GMT 06:13 2021 الأربعاء ,15 كانون الأول / ديسمبر

أزمة قراءة أم أزمة خيارات؟

GMT 06:18 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

أزمة قراءة أم أزمة خيارات؟

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 07:52 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات ميغان ماركل في 2024 جمعت بين الرقي والبساطة
المغرب اليوم - إطلالات ميغان ماركل في 2024 جمعت بين الرقي والبساطة

GMT 08:27 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة
المغرب اليوم - نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة

GMT 06:41 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

وفاء عامر تكشف أسباب اعتذارها عن مسلسل "سيد الناس"
المغرب اليوم - وفاء عامر تكشف أسباب اعتذارها عن مسلسل

GMT 08:50 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

الكشف عن قائمة "بي بي سي" لأفضل 100 امرأة لعام 2024
المغرب اليوم - الكشف عن قائمة

GMT 16:38 2016 الجمعة ,23 كانون الأول / ديسمبر

إضافة 408 هكتارات من الحدائق والمساحات الخضراء في بكين

GMT 10:48 2019 السبت ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

جنون الريمونتادا

GMT 12:35 2019 الثلاثاء ,16 إبريل / نيسان

امرأة تعقد عقد جلسة خمرية داخل منزلها في المنستير

GMT 04:14 2019 الخميس ,31 كانون الثاني / يناير

ارتفاع سعر الدرهم المغربي مقابل الريال السعودي الخميس

GMT 10:06 2019 الثلاثاء ,29 كانون الثاني / يناير

الطاعون يلتهم آلاف المواشي في الجزائر وينتشر في 28 ولاية

GMT 03:21 2019 الجمعة ,25 كانون الثاني / يناير

إعادة افتتاح مقبرة توت عنخ آمون في وادي الملوك

GMT 10:21 2019 السبت ,12 كانون الثاني / يناير

فضيحة جنسية وراء انفصال جيف بيزوس عن زوجته

GMT 09:04 2018 الأربعاء ,12 كانون الأول / ديسمبر

والدة "راقي بركان" تنفي علمها بممارسة نجلها للرقية الشرعية

GMT 05:06 2018 الإثنين ,10 كانون الأول / ديسمبر

جمهور "الجيش الملكي" يُهاجم مُدرّب الحراس مصطفى الشاذلي

GMT 06:44 2018 الخميس ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

"Il Falconiere" أحد أجمل وأفضل الفنادق في توسكانا

GMT 00:44 2018 الخميس ,25 تشرين الأول / أكتوبر

اكتشف قائمة أفخم الفنادق في جزيرة ميكونوس اليونانية

GMT 15:10 2018 الإثنين ,13 آب / أغسطس

شركة دودج تختبر محرك سيارتها تشالنجر 2019

GMT 19:15 2018 الأربعاء ,01 آب / أغسطس

يوسف النصري علي ردار فريق "ليغانيس" الإسباني
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib