من تابع “الحرب” التي اشتعل أوارها على الحُدود اللبنانيّة مع فِلسطين المُحتلّة ليل الثلاثاء الأربعاء، وحالة الارتباك التي سادت صُفوف نِتنياهو وجِنرالاته وتمثّلت في قطع الأوّل إجازته وترؤّسه اجتماعًا للحُكومة الأمنيّة المُصغّرة، يخرج بانطباعٍ مفاده أنّ جبهة جنوب لبنان تعيش حاليًّا حالةً من الغليان وليس التّسخين فقط، ومُعرّضة للانفجار في أيّ لحظة، وسط حالةٍ من “التكتّم” من جانب المُقاومة الإسلاميّة على أحداثها جاءت ثمرةً لتغييرٍ جديد في قواعد الاشتباك، وأُسلوب الحرب النفسيّة، أبرزها المزيد من إرباك العدو عسكريًّا، وعدم الإعلان عن التّفاصيل احترامًا للوضع اللبنانيّ الداخليّ المُتوتّر، خاصّةً بعد كارثة انفجار ميناء بيروت، وتفاقم انتشار فيروس الكورونا.
من الواضح أنّ القيادة السياسيّة لـ”حزب الله” طلبت من جميع كوادرها الإعلاميّة والسياسيّة عدم الإدلاء بأيّ تصريحات، أو القيام بتغطيات إعلاميّة ميدانيّة لهذه الحرب، والالتزام بالرواية الرسميّة التي تنفي أيّ تسلّل لخلايا جهاديّة إلى العُمق الفِلسطيني المُحتل، وتُؤكّد أنّ العدو الإسرائيلي يُحارب “أشباحًا” تمامًا مثلما حصل في الحرب الأخيرة قبل أُسبوعين.
***
الرواية الإسرائيليّة جاءت مُختلفةً كُلِّيًّا، حيث أكّد الجيش أنّ قوّاته قصفت صباح الأربعاء “نُقاط مُراقبة” لحزب الله قُرب الحُدود مع لبنان ردًّا على إطلاق نار على إحدى دوريّاته، إلى جانب إطلاق صواريخ وقذائف على ثلاث قرى لبنانيّة، وشمل هذا القصف إطلاق 117 قذيفة فوسفوريّة مُضيئة، و100 قذيفة مُتفجّرة، واستمرّ ساعتين حسب شُهود العِيان في المِنطقة الحُدوديّة.
اللّافت أنّ هذا التّصعيد العمليّاتي من الجانبين جاء بعد إسقاط منظومات المُقاومة الجويّة طائرةً “مُسيّرة” إسرائيليّة اخترقت أجواء الجنوب، وكانت في مَهمّةِ استطلاعٍ وتجسّس، وجرى نشر صور لها في رسالة واضحة للإسرائيليين بأنّ هذا سيكون مَصير أيّ مُسيّرة تتجرّأ على خرق الأجواء اللبنانيّة مُستَقبلًا.
أمام حالة الغُموض هذه التي سادت مُعسكر المُقاومة تُجاه ما حدث فجر الأربعاء على الحُدود وأثارت العديد من علامات الاستفهام، قام السيّد حسن نصر الله بالإدلاء بتصريحٍ مُقتضبٍ بقوله أمس “ما حصل في جنوب لبنان مساء الثلاثاء أمرًا مُهمًّا وحسّاسًا لدينا، لكن لن أُعلّق عليه الآن، وسأترك ذلك إلى وقتٍ لاحق”، ووجّه في كلمةٍ له أدلى بها خلال المجلس العاشورائي المركزي “التحيّة إلى جرحى المُقاومة، وعائلاتهم، الذين كانوا مُتواجدين دائمًا في الميادين، ولبّوا النّداء، ولم يبخَلوا بأيّ عطاءٍ أو جُهد، وذهبوا للشّهادة، ولكنّ الله أعطاهم وسام الجِراح، وألحقهم بالعُظماء الذين رمزهم أبو الفضل العباس”.
هُناك ثلاث نُقاط يُمكن استخلاصها من بين سُطور هذا التّصريح المُقتضب والمكتوب بعنايةٍ، والمَليء بالغُموض والتّشويق المُتعمّدين، لإحداث المزيد مِن الإرباك في صُفوف الإسرائيليين، انتظارًا لخِطابه المُقبل:
أوّلًا: السيّد نصر الله بهذا التّصريح كسر دائرة “التّعتيم” التي سادت أوساط الأجهزة الإعلاميّة والسياسيّة التّابعة للمُقاومة حول أحداث الجنوب الأخيرة باستِخدامه تعبير “ما حدث كان أمرًا مُهِمًّا وحسّاسًا بالنّسبة إلينا”.
ثانيًا: عندما يُوجّه التحيّة لجرحى المُقاومة وعائلاتهم “الذين كانوا مُتواجدين دائمًا في الميادين ولبّوا النّداء” ودون أن يُحدِّد أين، فإنّه يكشف معلومتين مُهمّتين، الأولى أنّه لم يسقط أيّ شهيد من جرّاء القصف الإسرائيلي الأخير، والاعتِراف في الوقت نفسه بوقوع إصابات في صُفوف رجال المُقاومة وعائلاتهم من جرّائه.
ثالثًا: وجود “نوايا” أو “خطّة” لدى السيّد نصرالله بالإقدام على الرّد على هذه الغطرسة الإسرائيليّة، بالانتقام للشّهيد الذي سقط في غارات على غلاف مطار دمشق قبل شهر أوّلًا، وللجرحى الذين سقطوا في القصف الإسرائيلي قبل يومين ثانيًا، ولعلّه ينتظر انتهاء زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للبنان بعد بضعة أيّام للإقدام على الرّد بالمِثل، حسب ما ذكر لنا مَصدرٌ مُقرّبٌ من الحزب.
***
السيّد حسن نصر الله سيَضرُب حتمًا في العُمق الإسرائيليّ إن عاجلًا أم آجلًا لتثبيت قواعد الاشتِباك مع الإسرائيليين، تنفيذًا لوعوده وتهديداته، خاصّةً أنّ هُناك “معلومات” تُؤكّد أنّ أعدادًا كبيرةً مِن المُقاتلين الذين عادوا من سورية جرى نشرهم في القُرى الجنوبيّة على طُول الحُدود انتظارًا للأوامر من القِيادة العُليا، وربّما هذا ما يُفسِّر حالة الارتباك في صُفوف الجيش الإسرائيلي وردود فِعله الانفعاليّة وإطلاقه النّار والقنابل الفسفوريّة خوفًا من أيّ “شبح” يقترب من الحُدود، وهي الرّدود المُكلفة ماديًّا ونفسيًّا.
أكثر ما يخشاه نِتنياهو في ظِل الأزمة السياسيّة الحاليّة التي يُواجهها إلى جانب فشله الذّريع في التّعاطي بفاعليّة مع أزمة الكورونا، أن تتسلّل قوّات تابعة لحزب الله عبر الحُدود وتُهاجم مُستوطناته ومُستوطنيه وتحتل، ولو مُؤقّتًا، أجزاءً من الجليل الفِلسطيني الأعلى المُحتل، وهذا السّيناريو غير مُستبعدٌ على الإطلاق، والصّحف الإسرائيليّة نقلت عن مصادر أمنيّة رفيعة المُستوى يوم أمس أنّ السيّد نصر الله “مُستمرٌّ في مُحاولاته لتوجيه ضربة عسكريّة مُؤلمة لإسرائيل انتقامًا لشهيده في دِمشق، وأنّ القِيادة العسكريّة الإسرائيليّة وضعت خطّةً للرّد”.
المَوازين والمُعادلات على الأرض تغيّرت كُلِّيًّا، والتّهديد الذي كانت تُلوّح به القِيادات الإسرائيليّة طِوال العِشرين عامًا الماضية بتدمير بيروت لم يَعُد مُجدِيًا، لأنّ نِصف بيروت بات مُدمّرًا بفِعل الانفجار على أيّ حال، ولأنّ الرّد سيكون بالمِثل، إن لم يَكُن أعظم، أيّ تدمير تل أبيب وفوقها حيفا وعكا ومخازن الأمونيا فيها، وما تيَسّر مِن ديمونا وإيلات.. واللُه أعلم.