مخيمُ جنين صداعٌ مزمنٌ وكابوسٌ مرعبٌ

مخيمُ جنين صداعٌ مزمنٌ وكابوسٌ مرعبٌ

المغرب اليوم -

مخيمُ جنين صداعٌ مزمنٌ وكابوسٌ مرعبٌ

الدكتور مصطفى يوسف اللدّاوي
بقلم : مصطفى يوسف اللدّاوي

إنها حالة الكيان الصهيوني مع جنين ومخيمها منذ أكثر من عشرين عاماً، فهو لا ينفك يعاني من شمال الضفة الغربية عموماً ومن جنين خصوصاً، التي أضنته وأتعبته، وآلمته وأوجعته، وقتلت جنوده وفجرت عرباته، وكسرت أنفه وحطمت كبرياءه، وصمدت في وجهه وقاومت عدوانه، وضمدت جراحها وعمقت جراحه، وصبرت على تضحياتها وكبدته أثماناً أرهقته، واستقطبت المقاومين وأقلقته، وآوتهم وحمتهم، وكانت حاضنتهم وحصنهم، وقلعتهم التي فيها يقاتلون وإليها يلجأون، وجعلت كتيبتها وهي الأولى عنواناً للمقاومة ورمزاً للصمود، فاحتذت بها غيرها، وقلدتها مدن الضفة ومخيماتها، ونسقت معها وتعاونت، ونافستها وساعدتها، وخففت عنها وساندتها.

لم تتوقف سلطات الاحتلال الإسرائيلي يوماً عن التفكير في معاقبة مخيم جنين وتأديب أهله، وتفكيك خلاياه العسكرية وبنيته التنظيمية، واعتقال مقاوميه أو قتلهم، ونزع سلاحهم وفض الناس من حولهم، وعزلهم عن بيئتهم وحرمانهم من حاضنتهم، فقد أعياه المخيم كثيراً وأعجزه، وسبب له صداعاً مزمناً عانى منه طويلاً وشكى منه أكثر، وتمنى أن يخلص منه وينجو من براثنه، وقد حاول كثيراً تحقيق حلمه وتسكين جراحه، فاجتاح المخيم مراراً ونجح في اعتقال بعض المقاومين وقتل آخرين، ودمر بيوتهم وعاقب أهلهم، لكن المخيم بقي عصياً متمرداً، قوياً شامخاً، يقاتل بكبرياء، ويصمد بشمم، ويرسل مقاوميه إلى كل مكان يباغتون العدو ويهاجمونه وينالون منه ويؤلمونه، كما أصبح ملجأ المقاومين وملاذهم، وحصنهم الذي يلوذون إليه ويحتمون فيه.

لكن صداع الاحتلال قد تفاقم واشتد، وكثرت نوباته وطالت فتراته، وتعذر علاجه وفشل في السيطرة عليه، وخشي أن يتحول مخيم جنين مع الأيام إلى كابوسٍ يرعبهم وموتٍ يلاحقهم، وأن يتحرر من قيوده وينتصر على الحصار، ويقوى أكثر ويتسلح، وتنتقل عدواه وتنتشر بين الفلسطينيين تجربته، ويصبح مثل قطاع غزة في الجنوب، بعد أن أصبح مقاوموه يفكرون في صناعة الصواريخ ونصب المنصات واستهداف المسيرات وتفجير العبوات، وإن تجاوزت جنين ومخيمها العتبات الأمنية والعسكرية التي تعترضها، فإنها ستكون أخطر عليه من قطاع غزة، فهي تقع في القلب وتجاور المدن والمستوطنات الإسرائيلية، ويقع مخيمها قريباً من حيفا ومن جبال الكرمل التي ينتمي الكثير من سكانه إليها ويتطلعون إلى العودة إليها.

تقل مساحة مخيم جنين الذي بني في العام 1953 عن نصف كيلو متر مربع، ويسكن فيه قرابة 27 ألف فلسطيني، ويعتبر ثاني أكبر المخيمات الفلسطينية في الضفة الغربية بعد مخيم بلاطة في نابلس، إلا أن هذا المخيم الصغير الذي ينتمي إلى مدينة جنين القسام وفرحان السعدي، ويحتضن أجساد الشهداء العراقيين الذين استبسلوا في الدفاع عن المدينة، ورث عنهم وعن أجداده وعن عز الدين القسام الذي استشهد فيها، والأبطال الذين قاوموا معه وقاتلوا واستشهدوا، معاني القوة والعزة والكرامة، فعزمت المدينة ومخيمها على مواصلة الطريق ومتابعة النهج المقاوم، وراكمت القوة وجهزت المقاتلين، وأسست الكتائب وخاضت المعارك، وأرسلت المدد أفواجاً والمقاومين تباعاً إلى عمق فلسطين وأطرافها.

هذا المخيم الصغير مساحةً والقليل سكاناً والعظيم إرثاً والتليد مجداً، تجتاحه قوات الاحتلال الإسرائيلي للمرة الثانية بأكثر من 1200 جندي وضابط، معززين بالطائرات الحربية والطوافة والمسيرة، والدبابات والعربات المجنزرة وناقلات الجند، والجرافات الضخمة وكاسحات الألغام الثقيلة، وتقدم لهم العون والمساعدة الفنية والتقنية والمادية أجهزة التصوير والمتابعة الجوية الدقيقة، التي ترسل الصور، وتحدد الاحداثيات وتوجه الجنود وتضبط المواقيت وساعات الهجوم والمباغتة، والقصف والاقتحام وغير ذلك مما يجعل مهمة الجنود المحصنين في عرباتهم، والمحميين خلف جرافاتهم، سهلة وميسرة وبعيدة عن المغامرة ودفع الكلفة.

 

إلا أن المخيم الذي جمع السلاح وأعد القوة، ودرب الرجال واستعد للمواجهة، قرر الصمود في وجه العدوان الإسرائيلي الواسع للمرة الثانية، غير آبهٍ بقوة العدو وآلياته، ولا بسلاحه وعتاده، وتصريحاته وتهديداته، فهو يعلم أن العدو يشكو منه ولا يستطيع التخلص منه، ويعاني منه ولا يستطيع الانتصار عليه، ولو أنه كان يستطيع ذلك ما كرر عدوانه للمرة الثانية بعد عشرين عاماً على عدوانه الأول، الذي دمر فيه المخيم وجعل بيوته ومنازله ركاماً وشوارعه حفراً وأخاديدَ، إلا أن المخيم خرج من تحت الرماد واتقدت جمرته واشتعلت، رغم أن العدو لم يتوقف على مدى السنوات الماضية كلها، الفاصلة بين الحملتين العسكريتين الكبيرتين، عن عمليات الاجتياح والمداهمة والقتل والتصفية والإعدام والهدم والنسف والتخريب.

 

قد ينجح العدو في تحقيق بعض الأهداف التي أعلن عنها، كمداهمة معامل تصنيع العبوات الناسفة، وقتل واعتقال بعض المقاومين، وتخريب المخيم وهدم بيوته وطرد وتهجير أهله، لكنه يعلم يقيناً أنه لن يتمكن من إخماد نار المقاومة أو إطفاء جذوتها، ولن يتمكن من كي وعي سكانه والفلسطينيين عموماً، ولن يستطيع أن يخدع نفسه طويلاً وينام ملء جفنيه مطمئناً.

سيبقى العدو يشكو من الصداع، وسيستمر ألمه ووجعه، وستقفز صورة غزة في وجهه كالكابوس المرعب، وهي التي شن عليها أكثر من خمسة عشر حرباً ومعركة، وحاصرها سنين طويلة وعاقبها، إلا أنها نهضت وتعافت، ووقفت على أقدامها وواجهت، وتصدت لكل التحديات وانتصرت على كل الصعاب، حتى غدت رعباً يخيفه وكابوساً يلاحقه، يحرمه النوم وينغص عليه عيشه، وكذا ستكون جنين ومخيمها، وكل مدن فلسطين وبلداتها، الذين يتجهزون ليوم الحرب الأخيرة والمعركة الخاتم، التي نستبشر بها ونتوق إليها ويخشاها العدو ويحسب حسابها، فلا يحلمن أبداً بكسر شوكتها ولا بِكَيِّ وعيها وَوَهْيِّ عزيمتها وَلَيِّ عنقها.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مخيمُ جنين صداعٌ مزمنٌ وكابوسٌ مرعبٌ مخيمُ جنين صداعٌ مزمنٌ وكابوسٌ مرعبٌ



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ المغرب اليوم

GMT 02:13 2018 الأربعاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

تمثال لدبين قطبيين يُثير ذهول عملاء مركز تسوق

GMT 07:35 2016 الأحد ,18 كانون الأول / ديسمبر

أفضل مناطق لسياحة التزلج على الجليد في أوروبا

GMT 14:22 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

زلزال بقوة 3.2 درجة تضرب ولاية "مانيبور" الهندية

GMT 19:58 2020 الخميس ,09 كانون الثاني / يناير

أسماك القرش تنهش جثة لاعب كرة قدم في أستراليا

GMT 18:31 2019 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

تشابي ألونسو يؤكد جوارديولا سبب رحيلي عن ريال مدريد

GMT 21:58 2019 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

لطيفة رأفت تلهب مواقع التواصل الاجتماعي بمظهر جذاب

GMT 19:58 2019 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

دراسة تكشف عن قدرات النمل في علاج نفسه والنباتات

GMT 16:57 2019 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

تأجيل مباراة الرجاء البيضاوي ورجاء بني ملال

GMT 13:23 2019 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

لعبة SPIDER-MAN الأكثر مبيعا داخل اليابان في سبتمبر

GMT 15:35 2019 الأربعاء ,27 آذار/ مارس

وفاة شخص في حادثة سير خطيرة وسط الدار البيضاء
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib