بقلم - عبد الرحمن شلقم
الجهل قوة صامتة تسكن في تجاويف تكوين الأفراد، بغض النظر عن وجودهم في مجتمعات توصف بأنها متقدمة أو متخلفة. الجهل آفة تضرب الناس مثلما تفعل الأوبئة. متعلمون كُثر حمل بعضهم شهادات عالية في مختلف العلوم، تطبيقية أو نظرية، لكن فيروس الجهل تمكن منهم
هل يلتقي الجهل والعبقرية؟ نعم، وفي التاريخ الكثير مما يثبت ذلك. شخص واحد يغزو رأسه وباء الجهل، فيحوله فقاعة ملغومة. في دائرتها الزجاجية، تتخلق عشرات الفقاعات. تتفاعل بقوة ومن دون توقف، ويتحول رأس الموبوء معملاً كبيراً معقداً. تنبت فيه تهيؤات تعيش فيه ويعيش فيها. تمتلك تلك الحالة هبَّات سحرية غريبة. يعيش الشخص في فقاعته، ويبدع فيها كوناً ذاتياً بكل ما فيه. يرسم خرائطه الخاصة للبشر وللحياة ويصبّها في إناء فكري، ويصنع لغته العجيبة التي سيجعل منها الأنبوب التي يدفع عبره سائل تهيؤاته إلى وجدان الآخرين. الجهل لا يعني عدم المعرفة، بل في حالات كثير يلد من رحم المعرفة. معرفة تتجمع فيه أمراض نفسية، تخنق ما تعلمه الجاهل من معلومات تعارف عيها البشر. خطورة هذا الجهل أنه يمتلك قدرات تمكّن الجاهل من السطو على وجدانات وحتى عقول العوام، بل معهم بعض النخب في الكثير من الحالات. الجهل يبدع عبقريته التي تتحول قوة طاغية، تقنع الناس بأوهام يعيشون في مناكبها، ويجعلون منها عقيدة تستحق الموت فيها ومن اجلها.
سنة 1978 هزَّت الولايات المتحدة الأميركية، فاجعة غريبة. 913 شخصاً ينتحرون جماعياً في غويانا. رجال ونساء وأطفال شربوا جميعاً من براميل السم التي أعدّها لهم قائدهم القسيس الشيوعي الاشتراكي جيم جونز. من بين المنتحرين أفراد يحملون مؤهلات علمية، وبعضهم مارس مهناً ذات أهمية. المفارقة، أنهم اعتقدوا جازمين أنهم يرحلون إلى دنيا أخرى هي أفضل وأروع مما هم فيه. وإن ما سيقومون به سيهزّ الولايات المتحدة الأميركية، بل العالم كله، وسيراجع الجنس البشري كله أنماط الحياة الفاسدة التي يعيشها.
بدأ جيم جونز دعوته في أميركا. قسيس يبشر بالوحدة الإنسانية، والمساواة التامة بين البشر ونبذ العنصرية، وبشّر بتكوين مجتمع اشتراكي تسود فيه العدالة المطلقة بين جميع أفراده. تحدث باسم المسيح عيسى بن مريم. تجمّع حوله العشرات من الرجال والنساء البيض والسود. كان خطيباً مفوهاً، له قدرة عجيبة على تصوير عالم موعود قادم، كل ما فيه أرض، تنبت فيها قيم التسامح والعدالة، ويعم فيها الرخاء والأمن والسعادة. تدفق المسحورون بشخصيته الكارزمية. لا أحد من مريديه يعترض على ما يطرحه أو حتى يناقشه. طاعة عمياء للمنقذ العظيم. قام جيم جونز بتأسيس مركز رسمي له في سان فرنسيسكو، وأقام علاقات واسعة مع عدد كبير من السياسيين والمنظمات المدنية، ولم يجد معارضة رسمية من الدولة لنشاطه وتجمعه أو على ما يطرحه من أفكار.
ادعى جيم جونز أنه المسيح، ثم قال إنه لينين، وختم ادعاءاته بأنه الإله المخلص للبشرية.
هاجر بعد ذلك إلى غابة في غويانا، وأقام بها مدينة أطلق عليها، الأرض الموعودة وأعطاها اسمه، مدينة جونز. رافقه حشد من مريديه بلغ عددهم قرابة الألف. بدأ الجميع يزرع ويصنع، ولكنه فرض على الجميع نمطاً غريباً من الحياة. يوقظهم ليلاً، ويباشر خطبه ومواعظه ملعلعاً في الميكروفون. بعد أشهر بدأ الجميع يعاني من شح الغذاء، وحاول بعضهم الفرار، لكن القتل كان عقوبة كل من حاول. لقد عدّ جيم جونز، أن الجميع هم عبيد له.
في ليلة مظلمة خطب جيم في الجميع، وحذّرهم من هجوم قريب للجيش الأميركي عليهم، بعد قتل السناتور ليو ريان الذي زار مدينة جيم. طلب من الجميع الانتحار، وأعد لهم براميل سم السيانيد. مات الجميع بعد خمس دقائق، أما هو فقد أُطلقت رصاصة على رأسه وقُتل فوراً.
هذه الحادثة العجيبة الغربية تطرح أسئلة كثيرة. هل كان جيم جونز مجنوناً، أم كان عبقرياً استطاع أن يجعل من قرابة ألف شخص مجرد دواب يعبدونه ولا يعصون له أمراً ويركضون خلفه. صدقوا ما سيله في رؤوسهم من أوهام، ومشوا خلفه طائعين، وتجرّعوا السم بأمره وهم يتدافعون على براميله. هل كان هو يؤمن بما ذهب إليه، واعتقد فعلاً أنه سيغير العالم كله، بما أطلقه من خطب وعظات، وأن أرضه الموعودة التي أقامها في غويانا، ستكون منبع الضوء الذي سيشعل زمناً إنسانياً جديداً؟. شخصيته ونهايته تؤكد شيئاً واحداً، وهو، أنه شخص جاهل بلا حدود، لكن جهله كان من نوع فريد. جهل سائل هاجت أمواجه في فقاعة رأسه، صبّه جهلاً انتحارياً في رؤوس مخلوقات مريضة، ثم سقاهم إياه سماً وهم فرحون. كل الطغاة الذين جرَّوا شعوبهم إلى هاويات النهايات الدامية التدميرية، امتلكوا العبقرية ذاتها. أدولف هتلر، الشاويش شبه الأمي، قاد المجتمع الألماني الذي قدم للعالم قمماً من المفكرين والعلماء والفلاسفة، قادهم الفوهرر بعبقرية جهله المريض إلى أتون حروب، انتهت بموت الملايين من الألمان وغيرهم من الشعوب وانتحاره مثلما كانت نهاية هتلر وغيره من الطغاة عباقرة الجهل. في كثير من الحالات، تكون للجهل قوة تفوق قوة العلم والعقل والمعرفة. الحروب وخاصة منها الأهلية، التي تنشب بين أبناء الشعب الواحد، يشعلها الجهل الطاغي الذي يبدع مريدين لا يختلفون عن أولئك الذين صنعتهم عبقرية جهل جيم جونز في أرضه الموعودة بغويانا. كم من جاهل ينفث سائل جهله في رؤوس مريدين تعساء، في أماكن وأزمان دون أن يصلنا اسمه. يشرب الغافلون من براميل سمّه. يرحلون دون أن تطير وسائل الإعلام بتفاصيل مآسيهم.
العبقرية لا يخلو منها رأس، ولا تغيب في أي زمان، ولا في أي ميدان. عباقرة في العلم وفي الطب والإبداع الفني والأدبي والهندسي، وغيرها. لكن عبقرية الجهل الكامنة، هي الأخطر التي تقود من هم في عداد الدواب إلى براميل السم وحرائق الحروب، وهم يرقصون ويغنّون أناشيد النصر.
الحالة في منطقتنا تنطبق على تنظيم «داعش» الذي يندفع فيه الرجال والنساء، يقتلون الأبرياء في عمليات انتحارية. هم جميعاً ضحايا عبقرية الجهل التي سكبت براميل السم في رؤوسهم، فصار الموت عقيدة لهم. جيم جونز رغم رحيله، ما زال يسكب سائل سمه في رؤوس الجهلة.