بقلم : عبد الرحمن شلقم
الشاعر العربي أبو الطيب المتنبي، عبر الأرض والزمن. له محطات في كل بقاع الدنيا وبكل اللغات. لامس بإنسانية فكره وفلسفته وحكمته وعبقرية لغته، مشاعر الإنسان. درسه النقاد وأساتذة الأدب، وما يزال حاضراً في وجدان البشر. إيطاليا بلاد الفن والأدب والرسم والنحت، كان للشاعر العربي أبي الطيب المتنبي وجود فيها. رافقت الأستاذة جويا كياووتسي في زيارة لأستاذها فرانشيسكو غبريللي، وهي أستاذة علم الاجتماع بمعهد الدراسات الشرقية بمدينة نابولي. عاشت سنوات طويلة بليبيا وأتقنت اللغة العربية، وزارت مختلف المناطق الليبية، وقامت بأبحاث اجتماعية على مكونات المجتمع الليبي في المدن والصحراء. عمل والدها سنوات طويلة طبيباً في ليبيا في خمسينات القرن الماضي. كنت أتحدث معها بصحبة الأستاذ الدكتور خليفة التليسي، موسوعة الأدب الإيطالي والعربي. ترجم الأعمال الكاملة للأديب الإيطالي بيرانديلو إلى اللغة العربية، وكتباً كثيرة عن التاريخ الليبي، وألف قاموسين من اللغة الإيطالية إلى العربية، ومن العربية إلى الإيطالية، وله قاموس في اللغة العربية بعنوان النفيس. الدكتور التليسي من عشاق الشاعر المتنبي، فهو شاعر كبير له ديوان شعر كبير، وترجم ديوان طاغور والأعمال الشعرية الكاملة لفيديريكو غارسيا لوركا، وله كتاب جيد عنوانه «الشابي وجبران» ودراسة بعنوان أحمد رفيق المهدوي شاعر الوطن، والشاعر السوداني التيجاني، ومؤلفات كثيرة أخرى. منحه معهد الدراسات الشرقية بمدينة نابولي درجة الدكتوراه لما قدمه في مجال الدراسات الأدبية والتاريخية الإيطالية.
الدكتورة جويا ربطتها علاقة العلم مبكراً بالأستاذ خليفة التليسي، تلتقيه في طرابلس وروما ويكون الحديث باللغة العربية والإيطالية. هي العالمة بالمجتمعات العربية، وخاصة المجتمع الليبي، وكرسيُّها الذي تشغله في معهد الدراسات الشرقية بمدينة نابولي، يجعلها تعيش في دنيا الفكر والأدب والتاريخ العربي. الشاعر أبو الطيب المتنبي، كان الحاضر في كل لقاء بين الأستاذ الدكتور خليفة التليسي، والأستاذة الدكتورة جويا كياووتسي. في لقاء لنا نحن الثلاثة بمدينة روما، قالت لنا الأستاذة الدكتورة جويا كياووتسي، عندي لكما مفاجأة ستسعدني بقدر ما ستسعدكما. ذهبنا معاً إلى منزل متواضع بوسط روما القديمة. استقبلَنا رجلٌ عجوز يتوكأ على عكازه، وبادرنا بالتحية قائلاً: «أهلاً أهلاً بالأحبة. كان الحديث طويلاً، في التاريخ والأدب العربي والإيطالي. لكن الذي لم يغب، الشاعر أبو الطيب المتنبي وشعره. الأستاذ فرانشيسكو غبرييللي، قضى سنوات طويلة في دراسة شعر المتنبي، وترجم مختارات من قصائده، ونشرها بعنوان دراسات عن المتنبي، STUDI SU AL MUTANABBI. الأستاذ غبريللي كان من كبار المستشرقين الإيطاليين، الذي عاش للشعر العربي، لكنَّه كما قال هو: «لقد تلبسني هذا المبدع الشاعر الفيلسوف المتمرد». قال جملة لا أنساها وهي، أنَّ حياة المتنبي في حد ذاتها ملحمة شعرية طويلة، تتفوَّق على كثير من الملاحم الشعرية الكبرى التي عرفها الناس عبر التاريخ. تنقل الأستاذ المستشرق العجوز عاشق المتنبي بين قراءة بيوت من شعر المتنبي باللغة العربية وترجمتها إلى اللغة الإيطالية. تنقل بين أبيات من الشعر، تمجّد الشجاعة، وعزة النفس، وشهامة العرب، ورفض الضيم. الأستاذ غبريللي، ترجم مختاراته من شعر المتنبي، بلغة إيطالية تفيض ببلاغة منتقاة إلى حد الصعوبة.
الأستاذ الأديب الشاعر خليفة التليسي، عالم متبحر في اللغة الإيطالية مثلما العربية، وفي مختاراته الشعرية في كتابه: «قصيدة البيت الواحد»، رافقه أبو الطيب المتنبي طويلاً في مختاراته، أمَّا أنا، فقد توكأت على مساعدة الأستاذة جويا كياووتسي لفهم ما يقوله العجوز المتدفق شعراً متنقلاً بين العربية والإيطالية. توقف الأستاذ غبريللي عند صعوبة ترجمة الشعر العربي إلى اللغات اللاتينية، وخاصة بعض الأعمال مثل شعر أبي الطيب المتنبي. هناك صعوبة أيضاً في دراسة الشعر العربي بصفة عامة؛ حيث يكون للكلمة حمولة خاصة في آفاق التعبير، وفي حالة المتنبي تتداخل المعاني مع حرارة الشعور الذاتي للشاعر.
في كتابه، دراسات عن المتنبي، كتب غبريللي أن المعرفة الواسعة والدقيقة ببيئة الشاعر لها أهمية خاصة، وكذلك العامل الروحي والتاريخي، والتجربة الشخصية الصاخبة للشاعر.
الأستاذ غبريللي شارك في كل المؤتمرات والندوات التي أقيمت لإحياء ذكرى الشاعر أبي الطيب المتنبي، وقدم دراسات وأوراقاً حول حياته وشعره، فضلا عن إضافاته للشعر العربي والإنساني. لقد ترجمت أعمال الشاعر أبي الطيب المتنبي إلى عشرات اللغات في مختلف أنحاء العالم، وقدمت أطروحات عنه لنيل درجات الماجستير والدكتوراه في الأدب. في إيطاليا، عدّ الأستاذ فرانشيسكو غبريللي، الرسول الكبير للشاعر الكبير في بلاد الأدب والفن، ومنطلق النهضة الأوروبية إيطاليا.
شخصية ليبية أخرى بارزة، جمعت بين الفن والأدب والرياضة والسياسية، هو الراحل الأستاذ فؤاد الكعبازي، الذي كان أول وزير للنفط في العهد الملكي، ثم عين سفيراً لليبيا في دولة الفاتيكان في العهد الجماهيري. كان علامة فريدة في اللغة الإيطالية، وترجم المصحف كاملاً إلى الإيطالية، بلغة تفوق فيها على كبار سادة اللغة من الإيطاليين، وألَّف كتاباً عن الشاعر الإيطالي غابريللي دانوزيو، والشاعر العربي عمر بن أبي ربيعة. الأستاذ فؤاد الكعبازي درس اللغة الإيطالية مبكراً، وواصل دراستها، وتبحر في علومها حتى صار يتفوق على الإيطاليين أنفسهم. أصدر صحيفة باللغة الإيطالية وكان هو كاتبها وناشرها. ألقى العديد من المحاضرات في إيطاليا عن الأدب العربي، كان أبو الطيب المتنبي الحاضر الأكبر في كل محاضراته. الأستاذ علي الساحلي، كان من الشخصيات الليبية السياسية البارزة، فقد عمل سفيراً ورئيساً للديوان الملكي، وترأس لجنة جمع التراث الليبي. كان مسكوناً بالشعر الشعبي الليبي، والشعر العربي، وكذلك الإيطالي. اعتاد أن يزور جامعة باليرمو ويلقي فيها محاضرات عن الشعر والتاريخ العربي، ربطته علاقة صداقة طويلة مع الأستاذ فرانشيسكو غبريللي، وكان أبو الطيب المتنبي حاضراً، في محاضراته عن الأدب العربي.
قال الروائي الإيطالي ألبرتو مورافيا، لقد قدم الليبيون إيطاليا إلى العرب، لغة وذوقاً وأدباً وطعاماً ولباساً، وقدموا العرب لإيطاليا أدباً وتراثاً وفناً، لكن الديكتاتور بينيتو موسوليني، قدَّم لهم إيطاليا الفاشية القاتلة الوحشية.