«ميركل» نسوية ونصف

«ميركل» نسوية ونصف

المغرب اليوم -

«ميركل» نسوية ونصف

سوسن الأبطح
سوسن الأبطح

3 مقولات للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تستحق التوقف عندها، وهي تنهي 16 عاماً و4 عهود على رأس بلادها، شهد العالم خلالها طوفانات وزلازل، وخرجت منتصرة بسفينتها التي أبحرت بها مثقوبة، ومع ذلك بلغت شط الأمان بتفوق.

«يمكنكم أن تثقوا بي» ذاك كان وعدها الانتخابي، ووفت. تسلمت بلادها عام 2005 وسط ركود اقتصادي، وتحت عجز 94 مليار دولار، وفوقهم 5 ملايين عاطل عن العمل. حينها، كانت ألمانيا متأخرة عن محيطها، لكنها جعلت منها في ظروف قياسية، أكبر دينامو اقتصادي في أوروبا، رغم أنها انتُقدت طويلًا لافتقادها بانورامية رؤية الرئيس الفرنسي ماكرون، وسعة أفقه. لكن العبرة في النهاية. ساذجة ميركل! تهربت من واجباتها تجاه نساء ألمانيا! عطفت أكثر مما يجب على اللاجئين!

جاءت مقولتها الثانية «نعم نستطيع» حين سئلت عن فتح حدودها لأكثر من مليون لاجئ، بينما سُدت في وجههم السبل، استفزازية للبعض. «ماما ميركل» لم تلعب دور «الأم تيريزا» كما صورتها الصحف على أغلفتها، بعطف غير مدروس، وإنسانية فياضة. كانت تعلم أن لهؤلاء دوراً تحتاجه بلادها المتعطشة لعاملين، وهي تشيخ وتذوي، وأن نظامها الاجتماعي المحنّك قادر على امتصاصهم رغم الاختلافات الثقافية القاسية. ارتفعت صيحات «على ميركل أن ترحل»، ومضت هي في خطة دمج الوافدين، لتعود وتنتعش شعبيتها بعد هبوط، أدخل اليمين المتطرف للمرة الأولى إلى البرلمان.

كثيرون سخروا منها، يوم دخلت السياسة صغيرة، بوجهها البريء وحضورها الهادئ، منهم المستشار الذي عملت في ظله وزيرةً جيرهارد شرودر، ووزير الخارجية يومها يوشاكا فيشر. «الطفلة» كما كان يطلق عليها شرودر، كبرت، نضجت، واتسمت قراراتها بالحكمة والإصرار، وانتزعت بعد نضال سياسي واجتماعي طويل منصب أول مستشارة لألمانيا، وثاني حاكمة لدولة أوروبية، ثم «زعيمة العالم الحر». وبقيت متربعة على عرش اختيارات مجلة «فوربس» كأقوى امرأة في العالم 14 سنة، بدءاً من العام التالي لتوليها السلطة، ولم تزحزحها إلا مرة واحدة ميشيل أوباما، عام 2010. التي جاءت على الأرجح، من باب التنويع، لا الجدارة.

لم تتصرف ميركل يوماً على أنها رجل، وهي في غابة من الرجال، ولم تنزع لفرض حضورها الأنثوي، وتنصب نفسها محامية عن بنات جنسها. قبل سنوات قليلة سئلت إن كانت تعتبر نفسها «نسوية»، ضحكت بخجل، وردت مراوغة، بما معناه، أن هذا شرف لا تدعيه لنفسها. بقيت ميركل محافظة على حيادها تجاه الجنسين حتى في لباسها، الذي بدا يثير اهتماماً متجدداً.

لكنها وهي على همة مغادرة منصبها، نطقت بالجملة التي كانت تنتظرها النسويات العاتيات: «نعم أنا نسوية، وعلينا جميعنا أن نكون نسويات». هذه المقولة التي أردفتها بشرح لتعريفها للنسوية «بأنها مشاركة الرجال والنساء معاً في الحياة الاجتماعية على حد سواء». أثارت حنق المدافعات عن حقوق المرأة، فلا رضين بالتعريف، ولا قبلن ببقاء المستشارة حيادية اتجاه حقوقهن في راتب مساوٍ للرجل، ووجود برلماني أقوى، ونظام ضرائبي ينصفهن.

النسويات على ما يبدو صنفان؛ متطرفات يرون في المرأة جنساً يجب أن يتميز ويذكّر به في كل محفل وعند كل مفصل. ونموذج آخر، يريد أن يثبت بالعمل أنه ليس قادراً على تسجيل النقاط فقط، بل تحقيق الفوز بالضربات المتلاحقة التي تفقد الخصم صوابه.

هكذا فعلت ميركل عالمة الفيزياء وعاشقة الرياضيات. تجاوزت الأزمات المتلاحقة التي توالت عليها بجسارة، من الأزمة المالية عام 2008 التي أغلقت بنوكاً وأفلست شركات، إلى معضلة الدين الأوروبي عام 2011. ومن ثم زحف اللاجئين صوب أوروبا الذي كاد يقسم ظهر الوحدة الأوروبية عام 2015، ووجدت نفسها في الواجهة، ثم كارثة جائحة كورونا التي ضربت خلالها نموذجاً فريداً في قيادة الأزمة الصحية، تفوقت فيه على كل أوروبا، ولم ينتهِ عهدها دون فيضانات مدمرة، جرفت مناطق بأكملها.

في خضم تلك المعارك الطاحنة، دافعت ميركل عن وجود نساء سياسيات حولها، دعمتهن وأوصلتهن إلى وزارات حساسة، ولتولي مناصب كبيرة باعتبارهن مخلوقات كفوءة، كما فعلت مع أورسولا فون دير لاين، وزيرة دفاعها السابقة، بحيث صارت أول امرأة تتولى رئاسة المفوضية الأوروبية.

بقيت «ماما ميركل» نسوية على طريقتها، لا تحمل يافطات وشعارات بل ترسم نموذجاً، وتشق طرقاً لبنات شعبها بأظافرها، بأسلوب عيشها البسيط، في شقتها المتواضعة، وارتيادها دكان الحي، وممارستها هوايات صغيرة لا تتعدى النزهات الجبلية. وصف نهجها عالم اجتماع ألماني يدعى أورليس بيك بمصطلح «ميركيافيل» ناحتاً كلمة «ميركل» مع «مكيافيل»، للقول إنها جمعت «الصرامة» بـ«التريث» وتحلت بالـ«ديناميكية» و«المرونة».

ثم إن «أم الشعب» كما يطلق عليها، هي ليبرالية غربية حتى النخاع، آمنت بالديمقراطية ودافعت عن تماسك «الأطلسي» والحريات، دون أن تغفل مصالح بلادها مع روسيا، ولا أهمية دور الصين المستجد؛ حيث باتت السيارات الألمانية التي تصدّر من الصين أكثر من التي تخرج من ألمانيا نفسها. سيدة التوازنات، عملت لمصلحة شعبها، قبل أن تنظر إلى نسويتها، أو العطف على الشعوب الفقيرة، فذلك ليس دورها.

ميركل نموذج نسوي غربي بامتياز، لم تأتِ بوساطة أخ أو شقيق أو زعيم طائفة، كما حالنا في لبنان. لهذا تبقى نماذجنا قاصرة عن تعبيد الطريق ومجرد ديكورات لطيفة المظهر، صدى لصوت الرجل، ومنفذاً لإرادته. اتهام ميركل بأنها ظلمت النساء، جور وتجنٍ. كل امرأة حرة الإرادة، سوية الفطرة، هي نسوية حتماً. لهذا سيخلد التاريخ «ماما ميركل» وستبقى حية في الضمائر.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«ميركل» نسوية ونصف «ميركل» نسوية ونصف



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 17:34 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

"فيفا" يكشف أسباب ترشيح ميسي لجائزة "الأفضل"
المغرب اليوم -

GMT 17:27 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
المغرب اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 13:12 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الحوت السبت 26-9-2020

GMT 13:22 2021 الأحد ,19 أيلول / سبتمبر

نادي شباب الريف الحسيمي يواجه شبح الانقراض

GMT 06:23 2023 السبت ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم السبت 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023

GMT 11:08 2023 الجمعة ,08 أيلول / سبتمبر

بلينكن يشيد بـ«الصمود الاستثنائي» للأوكرانيين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib