وانتصر نجيب محفوظ

وانتصر نجيب محفوظ

المغرب اليوم -

وانتصر نجيب محفوظ

سوسن الأبطح
بقلم: نجيب محفوظ

حين سئل نجيب محفوظ، بمن تأثر من الأدباء، في واحدة من مقابلاته، أجاب على الفور: «تتلمذت على طه حسين والعقاد والمازني وهيكل وتوفيق الحكيم، وأخذت من كل منهم فائدة لا تقدر». لم يبادر إلى ذكر كبار الكتّاب العالميين الذين قرأهم بنهم. فهو يعرف جيداً تولستوي، وكافكا وفلوبير. لكنه شدد يومها على مدى تأثره الكبير بالعقاد تحديداً، لأنه تعلم على يديه «معنى الحرية السياسية بمعناها الفلسفي». كان الرجل مقاتلاً، حراً في كتاباته، كما في سلوكه، فقد شاع قبله أن الأدب يصلح للتكسب، جاء هو وتحدّث عن «كرامة الكاتب» التي تفوق المال أهمية لا بل وتفوق كرامة الرجل السياسي. بقيت «الكرامة» عند العقاد، في ذهن محفوظ حية. لم ينس ما قاله الرجل، بعد أن سجنه الملك فاروق سنة كاملة عام 1930. فقد خرج الكاتب شامخاً، بل مصراً على أن شيئاً فيه لم يتغير، وأن أصدقاءه لا يزالون هم أنفسهم، وأن أعداءه لم يتغيروا، هم أيضاً.

أكثر ما عشق محفوظ الذي تحتفي مصر بعيد ميلاده العاشر بعد المائة هذه الأيام، هي الحرية. درس العقاد لم يغادره أبداً، وإن لم تكن له شراسته، وقوة شكيمته، وجلافة طبعه، وشخصيته الصدامية. دافع محفوظ عن حريته على طريقته الهادئة والمواربة؛ بدأ بكتابة الرواية التاريخية، التي يقول إنها كتبت عن الحاضر، وللتعبير عما يجول في نفسه، من دون أن يتعرض للمساءلة. ثلاثيته التاريخية «عبث الأقدار» و«رادوبيس» و«كفاح طيبة»، ليست أشهر ما كتب، لكن لها دلالاتها الكبرى، في مساره العام. حين خرج من عباءة التاريخ جعل بطله كمال عبد الجواد في ثلاثيته الشهيرة، أنموذجاً لجيل ما بعد ثورة 1919 بما عاشه من انكسارات وانهيارات وإحساس بالضياع، وهو يرى إجهاض معركة الاستقلال. إنه «جيل المأساة» وكمال عبد الجواد قد يكون محفوظ نفسه، بما عاناه وخبره من الاحتلال الإنجليزي وما تبع خروجه من محن.

لكن محفوظ المهجوس بحريته، والمسكون بالمثابرة، الذي لم يبالِ بإهمال النقاد له أكثر من 15 سنة، صمت بعد ثورة يوليو ظاناً أن وطنه وضع على سكة السلامة، ليخرج بعد سنوات بروايته «أولاد حارتنا» التي ستبقى لعنتها تطارده حتى اللحظة الأخيرة من حياته، تماماً، مثلما ساهمت في نيله «نوبل» أكبر جائزة أدبية في العالم.
ما أن صدرت حلقات من «أولاد حارتنا» في جريدة «الأهرام»، حتى بدا واضحاً أن الرمزيات التي استخدمها محفوظ، كانت أوضح من أن تدارى. فقد كشف أكثر مما يحتمل القراء، ومما تستطيعه السلطة السياسية التي كانت له بالمرصاد. ورغم أن الهجوم كان دينياً، واتهم بالإلحاد والزندقة والردة، إلا أن خلفه كان غضباً سياسياً ناصرياً. كان جلياً أن الجبلاوي رمز للذات الإلهية، وأن عرفة، اسمه آتٍ من العرفان والعلم، الذي يكتب له النصر في النهاية، وكذلك قاسم ورفاعة، الذي رفع إلى السماء وأدهم وإدريس. الربط بين محفوظ وسلمان رشدي كان فيه الكثير من التجني. وبقي التحامل على محفوظ، مانعاً دون نشر روايته في مصر، بعد أن صدرت في بيروت عام 1962.

محفوظ الذي لا تنقصه الحيلة، بعد أن قال كلمته واستراح، ونشرت روايته في «دار الآداب»، بقي مسايراً، مهادناً، ولم يقبل إعادة نشر الرواية، ولو على حلقات في الصحف المصرية، بدون موافقة الأزهر. أصرّ على موقفه، متفادياً الاستفزاز، رغم موجة التأييد التي اجتاحت القراء بعد حصوله على نوبل، والموجة الأكبر بعد محاولة اغتياله، نحراً، عام 1994 عقاباً له من أصولي، لم يقرأ «أولاد حارتنا» ولا غيرها من روايات محفوظ.

رقراق كخيط حرير قاطع، كان صاحب «زقاق المدق». تعيد قراءته، فتجد أنه على مدى أكثر من ستة عقود، وجد دائماً السبيل، ليتسلل حيث يريد، بدون أن يبدي سخطاً، أو تململاً، أو يدخل في سجالات عدائية كبرى. لم تكن تلك طبيعته، ولا ذاك هدفه الذي حققه بجدارة، وإن دفع الثمن غالياً باعتلاله بعد الاعتداء الظالم عليه الذي حرمه من الإمساك بالقلم والكتابة كالمعتاد. لكن العناد لم يمنعه من أن يكتب «أحلام فترة النقاهة»، تلك الرائعة الأدبية الخالدة التي كثف فيها رؤيته إلى الحياة، في خاتمة أشبه بالوصية الإنسانية.
بقدر ما جار عليه الزمن كان محظوظاً هذا المحفوظ. فمن النادر في بلادنا أن يجد أديب، ولو كان عظيماً ومستحقاً، الاهتمام والانتشار والعناية التي يلقاها صاحب «الثلاثية» أو الاحتفاليات التذكارية التي تبقيه حياً في ضمير الجيل الجديد. فنحن قوم لا نكرّم أدباءنا، ولا نعرف لهم قيمة إلا بعد أن يعطوا صكاً غربياً كالذي ناله محفوظ. مع أنه لم يكن بحاجة لذلك، لكن شاءت الحال التعسة التي نعيش، أن ينتصر محفوظ لحريته، ولرأيه، وأن تنشر «أولاد حارتنا» في مصر، ويرى فيه العالم العربي أعظم روائي في العصر الحديث بعد حصوله على نوبل. والأصل أن تحمل أمة كتّابها، وترفع من قيمة أعمالهم المستحقة، لتعرّف العالم بهم، وتتشرف بإبداعاتهم.

لم يكن صاحب «الثلاثية» الذي قيل أن له «عناد الثيران»، قاصراً عن التباهي بأنه قرأ بروست وجويس وفوكنر، وهمنغواي، كما يفعل بعض المتفرنجين هذه الأيام، وبأنه تلميذ نجيب لدوستويفسكي، لكنه آثر عباس محمود العقاد، الذي يختلف معه بالكثير، ويلتقيه في درس «الحرية»، الذي انتصر فيه وأبدع.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

وانتصر نجيب محفوظ وانتصر نجيب محفوظ



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 17:34 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

"فيفا" يكشف أسباب ترشيح ميسي لجائزة "الأفضل"
المغرب اليوم -

GMT 17:27 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
المغرب اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 13:12 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الحوت السبت 26-9-2020

GMT 13:22 2021 الأحد ,19 أيلول / سبتمبر

نادي شباب الريف الحسيمي يواجه شبح الانقراض

GMT 06:23 2023 السبت ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم السبت 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023

GMT 11:08 2023 الجمعة ,08 أيلول / سبتمبر

بلينكن يشيد بـ«الصمود الاستثنائي» للأوكرانيين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib