بقلم :عثمان ميرغني
لم أكن أودُّ الخوضَ في موضوع البلبلة التي يثيرها فلول نظام الرئيس المخلوع عمر البشير من الإسلاميين وغيرهم في ظروف الحرب الدائرة اليوم في السودان، وذلك لثلاثة أسباب. الأول لقناعتي بأنَّ هذه اللحظة تستدعي تركيزَ الأنظار نحو معركة وحيدة، تلك التي يخوضها الجيش ضد ما أراه محاولة انقلابية نفذها قادة «الدعم السريع» لتسلم السلطة في إطار مؤامرة واسعة متشابكة الخيوط. والثاني لإيماني الراسخ بأنه لا يستقيم أبدا أن نساوي بين الجيش وميليشيا في النظر إلى هذه المعركة، وأنه في كل الأحوال لا يمكن لدولة راشدة أن تقبل بوجود ميليشيات، وجيوش رديفة وسلاح منفلت، لأن هذه وصفة مؤكدة للفوضى والخراب والاحتراب. أما السبب الثالث فهو أهمية الاصطفاف خلف الجيش كمؤسسة قومية، مهما اختلفنا مع قيادته الحالية، لأن انكساره يعني كسر السودان وأمنه ووحدة أراضيه، وكشفه أمام أي طامع وكل المخاطر المحدقة في عالم اليوم المضطرب. وهذا الاصطفاف لا يخضع لمزايدات السياسة، ولا يستثني أحدا، بمن في ذلك الفلول والإسلاميون، ولا يحتكر الوطنية لمجموعة دون غيرها أو يتخذها ورقة في معارك طواحين الهواء التي أرهقت البلد وأسهمت في تقويض استقراره لعقود طويلة.
لكن ما دعاني للخوض في الموضوع الآن هو القلق من أن تؤثر الضجة التي أحدثها «الكيزان» (وهي التسمية الدارجة في السودان وطغت على مسمى الإخوان هناك)، على قراءة مشهد الحرب الراهنة وما سبقها وربما ما قد يعقبها. ذلك أن محاولتهم اختطاف المشهد من خلال سياسة الصوت العالي، وتصوير أنفسهم وكأنهم القوة الوحيدة أو الأكثر حماسا لدعم الجيش في هذه الحرب، أحدثت تشويشا واستخدمت في إطار الجدل حول من أطلق الرصاصة الأولى، الجيش أم «الدعم السريع» أم «طرف ثالث»، أشعل الفتنة ويريد من خلالها ترتيب انقلاب جديد يعيد فلول النظام السابق والإسلاميين إلى السلطة.
الحقيقة أن الحركة الإسلامية السودانية، وهي حركة سياسية بامتياز وليست دعوية بالمعنى المتعارف عليه، برعت في اللعب على التناقضات، ونجحت دائما من خلال سياسة الصوت العالي في تصوير نفسها بحجم أكبر من حجمها الحقيقي في الشارع السوداني وداخل مؤسسات الدولة بما في ذلك الجيش. وليس سرا أنها ظلت تخطط وتعمل منذ سقوط نظامها للعودة إلى المشهد، بإثارة البلبلة ومحاولة ضرب ثورة ديسمبر 2018، وتعويق الحكومة المدنية التي تشكلت بعدها. ساعدها على ذلك جو التشرذم والانقسامات بين القوى المدنية الأخرى، والخلافات بين هذه القوى والمكون العسكري في السلطة.
تدريجيا نجح «الكيزان» والفلول في العودة إلى المشهد، إلى الحد الذي وجدوا معه الجرأة للخروج علنا وتحدي القوى المدنية والسياسية الأخرى وإعلان العزم على إسقاط أي مشروع أو اتفاق لا يشملهم. وقبل اندلاع الحرب الراهنة عقدوا اللقاءات التي حرصوا على تصويرها ونشر فيديوهاتها على المنصات المختلفة، ودعوا فيها أنصارهم للتحشيد لإسقاط مشروع الاتفاق الإطاري السياسي الذي بموجبه كان يفترض أن تشكل حكومة جديدة لاستكمال مسيرة الانتقال نحو الحكم المدني الديمقراطي. واستخدم هؤلاء، مثلما استخدم آخرون في الجانب المقابل، لغة استدعت مفردات التلويح بالحرب، ما أثار المزيد من التوترات في مشهد معقد أصلا، وفتح المجال لإطلاق الاتهامات والاجتهادات حول كيف اندلعت المواجهة الراهنة بين الجيش و«الدعم السريع»، وشوش بذلك على الحقائق والشواهد الكثيرة والدامغة بأن قيادة «الدعم السريع» هي التي بادرت بالهجوم لتنفيذ انقلاب ضمن مؤامرة أوسع للسيطرة على السلطة ومقدرات البلاد.
واليوم عندما يعلو صوتهم فإنهم في الواقع يحاولون استخدام أسلوب البلبلة الذي برعوا فيه ويسعون من خلاله لفرض أنفسهم على المشهد السياسي، والرد على أي محاولات لإقصائهم منه. لكن سياسة الصوت العالي هذه لن تحجب حقيقة أنهم ليسوا وحدهم الداعمين للجيش في مواجهة تمرد قوات «الدعم السريع»، ولا هم بالأكثرية في هذا الدعم. وإذا خرجنا من دائرة غرف التواصل الاجتماعي، وخصومات السياسة ومجادلاتها، فسوف نلمس التفافا واسعا من السودانيين حول الجيش، ونرى في مقاطع الفيديو المنتشرة بكثرة والتقطها الناس العاديون الحفاوة في استقبال مرور حافلات الجيش وهي في طريقها إلى المعركة، ونسمع هتافات «جيش واحد… شعب واحد»، أو التهليل عندما يشاهدون قصف مواقع للدعم السريع.
الإسلاميون بالتأكيد لم يضيعوا فرصة رأوها سانحة لاختطاف المشهد واستغلال الحرب لفرض واقع جديد يعيدهم إلى الساحة، وللتأليب ضد خصومهم، الذي وصل إلى حد التلويح بقتل قيادات ورموز «قوى الحرية والتغيير»، كما ورد على لسان بعضهم. لم يهمهم إن كانوا قد وضعوا الجيش ذاته في موقف صعب اضطر معه للرد عليهم وعلى بيان أحمد هارون القيادي السابق في نظام البشير والمطلوب من المحكمة الجنائية الدولية، الذي دعا فيه الناس ومنسوبي حركتهم للالتفاف حول القوات المسلحة، مشيرا إلى «قوى الحرية والتغيير» باعتبارها العدو والمتسبب فيما يحدث اليوم. وأعلنت قيادة الجيش تبرؤها من أي مواقف تصدر من عناصر النظام السابق الذين خرجوا من سجونهم في ظروف الحرب هذه، وأشارت بشكل خاص إلى أحمد هارون وبيانه، قائلة إنه «لا علاقة لها به ولا بحزبه السياسي».
المفارقة الأخرى أن ظهور الفلول والإسلاميين أصبح أيضا ورقة يستخدمها قائد «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو (حميدتي) في كل مقابلة يجريها، كجزء من معركته الإعلامية الموجهة للداخل والخارج لكسب التعاطف، وإثارة المخاوف لقلب الطاولة على الجيش في هذه الحرب. هذا مع العلم أن حميدتي ذاته صنيعة هؤلاء «الكيزان» الذين يهاجمهم اليوم، لكنه انقلب ضدهم عندما رأى أن ورقتهم أصبحت خاسرة وأنه يمكن أن يربح أكثر من رفع ورقة معاداتهم، مثلما فعل مع البشير عندما رأى أن نظامه آيل للسقوط فتخلى عن الرجل الذي صنع ميليشياته وكان يقول عنه «حمايتي» بدلا من حميدتي. ويمكن أن نقول أيضا مثلما فعل مع حليفه البرهان الذي بات يطالب اليوم برأسه.
الإسلاميون لا شك رفعوا سقف المواجهة مع القوى الأخرى، وهو ما يهيئ الأجواء لجولة تالية من المعارك التي لم تنته مع سقوط نظامهم، ولا يعرف إلى أين ستؤدي بعد هذه الحرب الدائرة، ما لم يدرك الناس أن هناك سقفا لمعارك السلطة يجب ألا يعلو على صوت وطن يتوق إلى الاستقرار والتنمية، وأرهق من مماحكات السياسة، والمزايدات، وفشل النخب، ومسلسل الانقلابات الذي غذته أيضا قوى سياسية، حتى وصل اليوم إلى هذا الدرك السحيق.