ليبرالية أكثر ديمقراطية أقل

ليبرالية أكثر... ديمقراطية أقل

المغرب اليوم -

ليبرالية أكثر ديمقراطية أقل

نديم قطيش
بقلم - نديم قطيش

يقدم كتاب «مشكلة الديمقراطية: أميركا والشرق الأوسط... صعود وسقوط فكرة»، الصادر حديثاً، للأكاديمي الأميركي من أصول مصرية، شادي حميد، حجة مثيرة للاهتمام لما يسميه «الحد الأدنى الديمقراطي». حسب حميد، يجب التركيز في الشرق الأوسط على رعاية الديمقراطية الشرعية بمعنى التمثيل السياسي، لا على الليبرالية الاجتماعية. ويحض الكاتب على ضرورة أن يعتاد الغرب القبول بالحد الأدنى، أي الاكتفاء بحق الناس في أن يقرروا بشكل منصف وتمثيلي هوية من يحكمهم، حتى ولو أدى هذا الاستفتاء إلى إنتاج منظومة حكم غير ليبرالية بالمعنيين: الاجتماعي أو الاقتصادي.

وحسب حميد، فإن مثل هذه المغامرة تستحق الخوض، بزعم أن الديمقراطية -إذا ما أتيحت لها شروط تحقق فعلية وصحية- تمتلك القدرة على تنمية الغايات الليبرالية بشكل طبيعي مع مرور الوقت.

يدعونا كتاب حميد إلى ما يشبه الممارسات الإيمانية، ويحضنا على اعتناق «اليقين الديمقراطي» من دون أي اعتبارات جدية للمثالات الكثيرة المعاكسة لطرحه، وبعضها أظهر على مستوى العالم صنوف الوهن القيمي والعملي الذي يصيب الديمقراطية، حتى في عقر ديارها الأوروبية والأميركية.

أما فيما يعنينا، فلنتأمل مثلاً مآل الانتخابات الفلسطينية في فبراير (شباط) 2006، التي أدت إلى فوز حركة «حماس» على حساب حركة «فتح». كان المزاج الأميركي السياسي في إدارة الرئيس جورج دبليو بوش، شديد الانحياز لفكرة تصدير الديمقراطية إلى الشرق الأوسط. كانت القناعة أن الحكم امتحان لـ«حماس» التي إما أن تعتدل بسبب حاجتها لتحالفات تعينها على النجاح وتقديم حكم فعال للفلسطينيين، وإما أن تستمر في تشددها وتفشل وتخسر الانتخابات المقبلة. ما تلا ذلك معروف ومشهود؛ حيث لا انتخابات ولا من يحزنون؛ بل انقلاب وهيمنة وانقسام فلسطيني- فلسطيني لم يلتئم حتى اليوم.

هذا النهج الإيماني بالديمقراطية الذي تشترك فيه إدارة يقودها فكر المحافظين الجدد، مع أكاديمي ليبرالي يقف على الضفة النقيضة تماماً لها، يشكل تعبيراً عن الدوغمائية الكامنة داخل منظومة القيم الأميركية، والعاجزة على الدوام عن ملاحظة التعقيدات والفروق الدقيقة، في المجتمعات ذات العوامل الثقافية والدينية والتاريخية المختلفة والعميقة الجذور.

إن نظرة موضوعية لفشل نموذجَي فلسطين والعراق، كتجربتي دمقرطة حديثة، أو إلى تعثر ديمقراطيات قائمة في المنطقة، أكان في الخليج (الكويت) أو المشرق العربي (لبنان)، ومقارنتها مع أحوال دول غير ديمقراطية، ولكن تقودها أجندات تحديث ليبرالي على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، كالسعودية والإمارات، كافية ليتواضع المبشرون بالديمقراطية كسبيل يقيني للتقدم والرفاه والاستقرار الاجتماعي والقيمي.

تمكنت الإمارات العربية المتحدة (الدولة الليبرالية غير الديمقراطية) من خلق مجتمع مستقر ومزدهر وليبرالي اجتماعياً واقتصادياً. وقد أدى النهج التدريجي الذي اتبعته أبوظبي تجاه الليبرالية الاجتماعية، إلى تقدم كبير في حقوق المرأة والحرية الدينية والتنمية الاقتصادية، وتوزيع الثروة، والاستثمار في الإنسان. على نحو مماثل، تنطلق من المملكة العربية السعودية واحدة من أهم الثورات الاجتماعية والتنموية والثقافية، في ظل حكم ملكي لا يتبنى المنهج الديمقراطي.

وهنا يطرح السؤال البسيط عما إذا كانت الديمقراطية غاية عقائدية بذاتها، أم وسيلة لغايات أسمى تتصل بكرامة الإنسان وحياته. والجواب الحاسم أن الليبرالية غير الديمقراطية (السعودية والإمارات وسنغافورة) تبدو أكثر نجاحاً من كثير من نظيراتها الديمقراطية غير الليبرالية، ليس على مستوى الرفاه الاجتماعي والاقتصادي؛ بل على مستوى بناء مؤسسات الحكم.

يكفي للتأكد من ذلك التأمل فيما كاد أن يحصل في مصر «الإخوان»، لو قيض للراحل محمد مرسي أن يستكمل انقلاب التعديلات الدستورية لأخونة الدولة، أو الحاصل في إيران والعراق، أو الالتباس الفوضوي الحاصل في تونس بعد الثورة؛ حيث تتأرجح نسب الليبرالية والديمقراطية كما تتأرجح أسهم البورصة، وسط ضعف متنامٍ للمؤسسات الدستورية.

الغريب في مقاربات دعاة الدمقرطة، كسبيل وحيد لنهضة العالم العربي، مجادلتهم بأن المنجز الليبرالي الاجتماعي في الدول غير الديمقراطية محكوم بمصير الحكام أنفسهم، ما يجعلها منجزات غير مستقرة. في حين أنه لو نظرنا إلى السعودية بالتحديد، لوجدنا أن مراكمة المنجز الليبرالي استمرت بغير انقطاع من جيل إلى آخر، منذ تشريع التلفزيون مع الراحل الملك فيصل، إلى الثورة التي يقودها اليوم الأمير محمد بن سلمان.

مع ذلك، وبخصوص عدم استقرار المنجز الليبرالي، فيمكن قول الشيء نفسه بالنسبة للديمقراطيات؛ حيث يمكن أن يؤدي التغيير في الحكومة إلى انتكاسات كبيرة في السياسات، كما حصل مثلاً مع تغيير قوانين الإجهاض في أميركا، والذي عُد انتكاسة ليبرالية وقيمية هائلة في تاريخ التجربة الأميركية.

تبقى الذريعة الأهم التي يستخدمها حميد للحض على الديمقراطية أياً كانت النتائج، وهي أن أميركا وبينما تسعى فعلياً لتصدير الديمقراطية، فإنها تخشى مخرجاتها؛ لا سيما حين توصل الإسلاميون إلى الحكم. إن هذه الرواية تبسيطية ما لم تكن تتعمد التبسيط بغية التشويش على الوقائع. حقيقة الأمر أن إدارة الرئيس باراك أوباما لعبت دوراً مركزياً في دعم وصول الرئيس مرسي إلى الحكم، بسبب إسلاميته تحديداً. فقناعة أوباما منذ خطاب القاهرة عام 2009، هي أن أميركا تتعامل مع «عالم إسلامي» تعده ببدايات جديدة، متجاوزاً بشكل مريع تعقيدات الهويات والتيارات الفكرية والتنظيمات السياسية في دولنا.

والمفارقة أن هذه الإدارة نفسها منعت العلماني إياد علاوي من الحكم في العراق، رغم فوزه بانتخابات 2009، ودعمت وصول الإسلامي نوري المالكي؛ لأن وصوله كان يخدم أهدافاً استراتيجية لواشنطن.

ببساطة شديدة، يحاجج شادي حميد بأن العالم العربي يحتاج إلى «ديمقراطية أكثر» ولو على حساب الليبرالية مؤقتاً، بينما تجربة المنطقة تقول إن النجاح كان حليف التجارب التي اعتمدت «ليبرالية أكثر» ولو على حساب التمثيل الديمقراطي.

بالتجربة، وفرت الليبراليات غير الديمقراطية نهجاً عملياً يعطي الأولوية للهدف النهائي المتمثل في الكرامة الإنسانية والاستقرار الاجتماعي، مما يجعلها بديلاً مقنعاً يستحق النظر بعيداً عن المثاليات النظرية.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ليبرالية أكثر ديمقراطية أقل ليبرالية أكثر ديمقراطية أقل



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 00:54 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

روحي فتوح لتولّي رئاسة السلطة الفسطينية حال شغور المنصب
المغرب اليوم - روحي فتوح لتولّي رئاسة السلطة الفسطينية حال شغور المنصب

GMT 22:21 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يناقش إبعاد بعض وسائل الإعلام من البيت الأبيض مع نجله
المغرب اليوم - ترامب يناقش إبعاد بعض وسائل الإعلام من البيت الأبيض مع نجله

GMT 18:29 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي
المغرب اليوم - أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي

GMT 17:27 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
المغرب اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 13:12 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الحوت السبت 26-9-2020

GMT 13:22 2021 الأحد ,19 أيلول / سبتمبر

نادي شباب الريف الحسيمي يواجه شبح الانقراض

GMT 06:23 2023 السبت ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم السبت 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023

GMT 11:08 2023 الجمعة ,08 أيلول / سبتمبر

بلينكن يشيد بـ«الصمود الاستثنائي» للأوكرانيين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib