الدنيا «خطوط»

الدنيا «خطوط»

المغرب اليوم -

الدنيا «خطوط»

حسين شبكشي
بقلم : حسين شبكشي

ليست مبالغة أبداً حينما توصف حياة الإنسان في هذه الدنيا بأنها حياة مليئة بالخطوط، تحيط به منذ ولادته حتى رحيله. فلو قدر له أن يولد في دولة ما تقع جغرافياً شمال «خط» الاستواء، فهو سيكون بالعموم من المحظوظين، لأن دول الشمال أفضل حالاً وأكثر استقراراً من دول الجنوب. ويبقى نصب عينه، كغيره من مواطني تلك الدولة، يراقب بقلق وحذر، نسبة السكان الذين يقبعون تحت «خط» الفقر.
ويقضي عمره في خوف وترقب، خشية أن يتجاوز أياً من «الخطوط» الحمراء، سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم دينية.
ويحرص في جميع علاقاته الأسرية والاجتماعية والمهنية على أن يحافظ دائماً بحكمة وذكاء، مهما كانت الظروف، أن يحافظ على «خط» الرجعة.
ويبذل كل ما في وسعه من خلال معارفه وخبرته وتجاربه وعلاقاته لتحسين سمعته المالية، لأجل رفع «خط» الائتمان مع المؤسسات المالية التي يتعامل بها، لأجل تمويل مشترياته؛ مثل البيت والسيارة والتعليم والترفيه وغيرها.
ويحرص دائماً في مواقف الحياة عموماً، على عدم تجاوز «الخط» الرفيع بين الجد والهزل، والحلال والحرام والمسموح والممنوع.
ويقضي جلَّ أوقات عمره في «خط» سير مروري ثابت من بيته إلى المدرسة، ثم من بيته إلى العمل، خط سير فيه من القلق والإزعاج وشد الأعصاب والتوتر الشيء الكثير جداً، الذي يبقى مع الإنسان بشكل ما لآخر العمر.
وصولاً إلى المراقبة الحثيثة الخاصة «بخط» نبضات القلب، ومعرفة صحته أو علته أو كسرته.
الإنسان كائن عجيب ومخلوق فريد من نوعه، فهو لديه قدرة هائلة على التكيف والتأقلم، مهما صعبت الظروف وتغيرت الأوضاع، فهو وكما وُصف «حيوان اجتماعي»، فهو قادر على التعامل سريعاً، وبالتالي تقبل أي تغيير حاد في حياته، سواء أكان ذلك له علاقة بتبدل الانظمة والقوانين وقبول ما كان ممنوعاً بالأمس والعمل به على أنه مسموح واعتيادي اليوم، أم تبدل الظروف الاقتصادية أو الأوضاع الاقتصادية، وما يلحق بذلك من آثار حادة ومختلفة.
الخطوط التي تصنع حياة الإنسان تتحرك وتتغير، منها ما يتسع ومنها ما يضيق، ومنها ما يمحى ويختفي ومنها ما يؤسس من جديد.
يقول الفيلسوف الأميركي المعاصر ذائع الصيت كين ويلبر، إن الإنسان يقضي جل عمره في مواجهة «خط» التماس العاطفي والاجتماعي والاقتصادي والنفسي، وعندما يفشل في ذلك أحياناً، فإنه يصبح مواجهاً لـ«خط» النار.
يمضي عمر الإنسان مراقِباً لبعض الخطوط، ومرَاقَباً من البعض الآخر. كلها خطوط تحدد اختياراته وتحسم قدره، وبالتالي مصيره.
هناك قصيدة شعرية معروفة جداً باللغة الإنجليزية للشاعر الأميركي المعروف روبرت فروست بعنوان «الطريق الذي لم يتم ارتياده»، فيها مقطع فلسفي عميق للغاية يقول فيه الشاعر: «معرفتي وإدراكي بأن المسار يؤدي إلى مسار، فاخترت الطريق الأقل ارتياداً، وكان ذلك هو الذي صنع الفرق كله».
وكانت هذه القصيدة، تحديداً هذا المقطع فيها، إلهاماً كبيراً للغاية للكاتب الأميركي الأكثر مبيعاً مورغان سكوت بيك، مؤلف كتاب «الطريق الأقل ارتياداً»، وهو العنوان المستمد من القصيدة نفسها والمقطع المشهور فيها، وتحول كتاب سكوت مع الوقت إلى أحد أكثر الكتب مبيعاً، وتمت ترجمته إلى عشرات من اللغات حول العالم، وأصبح يوصف بأحد أساطير مؤلفات تطوير الذات.
المجتمعات بتطورها وقدرتها الفطرية على التأقلم بإمكانها أن تعقد الحياة على نفسها بطبيعة «الخطوط» التي تختارها لكي تكون إطاراً أساسياً لها، وذلك بأن تكون خطوطاً مقيدة للغاية تحت حجة النظام والترتيب، أو تكون خطوطاً لتكريس الثقة والإبداع بتخفيف حدة تلك الخطوط وإعدادها.
العقل البشري له خاصيات أسطورية وعجيبة للغاية، فهو حذر بطبعه، فلن يوجه صاحبه إلى لمس النار مثلاً لعلمه التراكمي بخطورة هذه المسألة بشكل مؤكد، وعواقبها المؤذية، ولكن العقل ذاته من الممكن أن يوجه صاحبه لأخذ قرار فيه «مجازفة ومخاطرة» غير بسيطة، ومع ذلك يتم تزيين القرار له ويردد في نفسه «لا ينالها إلا الجسور»، بعد أن كان لا يسمع إلا «من خاف سلم».

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الدنيا «خطوط» الدنيا «خطوط»



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 00:54 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

روحي فتوح لتولّي رئاسة السلطة الفسطينية حال شغور المنصب
المغرب اليوم - روحي فتوح لتولّي رئاسة السلطة الفسطينية حال شغور المنصب

GMT 22:21 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يناقش إبعاد بعض وسائل الإعلام من البيت الأبيض مع نجله
المغرب اليوم - ترامب يناقش إبعاد بعض وسائل الإعلام من البيت الأبيض مع نجله

GMT 18:29 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي
المغرب اليوم - أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي

GMT 17:27 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
المغرب اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 13:12 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الحوت السبت 26-9-2020

GMT 13:22 2021 الأحد ,19 أيلول / سبتمبر

نادي شباب الريف الحسيمي يواجه شبح الانقراض

GMT 06:23 2023 السبت ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم السبت 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023

GMT 11:08 2023 الجمعة ,08 أيلول / سبتمبر

بلينكن يشيد بـ«الصمود الاستثنائي» للأوكرانيين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib