إقليم شرق البحر الأبيض المتوسط

إقليم شرق البحر الأبيض المتوسط!

المغرب اليوم -

إقليم شرق البحر الأبيض المتوسط

بقلم : عبد المنعم سعيد
بقلم : عبد المنعم سعيد

عشنا الزمن الذي كانت فيه كلمة «الإقليم» من الكلمات والمفاهيم غير المستساغة في الرطانة السياسية العربية؛ فرغم أن معناها المباشر لا يزيد عن ترسيم حدود جغرافية لوحدة سياسية من نوع أو آخر، فإنه كان يخشى منها أن تكون تغطية على «الوطن العربي» الأكثر التصاقاً وحميمية قومية؛ أو أنه سوف يؤدي إلى الغرق في نطاق أوسع تضيع فيه الهوية العربية مثل إقليم «الشرق الأوسط»، وذلك قبل أن يكون «الكبير» أو المتسع والفسيح. ولكن المفهوم لقي تفهماً معقولاً على الأقل خارج المنظومة القومية العربية، عندما ولد في مطلع الثمانينات إقليم دول الخليج العربية، ممثلاً في مجلس التعاون الخليجي، وتلاه بعد ذلك مجلس التعاون العربي، ومجلس لتعاون دول المغرب العربي. ظهرت هذه المجالس واختفى بعضها، أو قلّت فعاليتها عبر الزمن، لكنها جميعاً كانت أقاليم «أرضية» تقوم على الجوار والاتصال الجغرافي على الأرض. وقد عرفت دول العالم أقاليم أخرى مشابهة في شرق وغرب أفريقيا، وبين دول «البينولوكس» والدول الإسكندنافية في أوروبا، وفي جنوب وجنوب شرقي آسيا في القارة الآسيوية، ودول «الميركوسور» في أميركا الجنوبية. وفي مناطق أخرى من العالم نشأت أقاليم للتعاون المشترك بين دول حوض نهر دولي مثل الدانوب في أوروبا، والميكونج في آسيا، والأمازون في أميركا الجنوبية. إقليم شرق البحر الأبيض المتوسط من نوعية جديدة لا تقوم على المشاركة في ملاحة منطقة بحرية، وإنما على تعزيز التعاون فيما يضطلع بإنتاج ثروات طبيعية، وهي في هذه الحالة الأخيرة الغاز والنفط. وحجر الزاوية في وجود الأقاليم البحرية هي عملية تخطيط الحدود البحرية بين الدول استناداً إلى المعاهدة الدولية لقانون البحار التي جري التوقيع عليها في عام 1982 وباتت واحدة من المقومات الأساسية للقانون الدولي في تحديد حدود الأقاليم البحرية والمناطق الاقتصادية الخالصة للدول.
ولعل اتفاقية تخطيط الحدود البحرية بين مصر والمملكة العربية السعودية في 8 أبريل (نيسان) 2016 قد وضعت الأساس لقيام إقليم البحر الأحمر للتعاون الاقتصادي بين البلدين، والأمني بينهما وعدد من الدول الواقعة على البحر الأحمر. ولكن اتفاقية تخطيط الحدود البحرية للمناطق الاقتصادية بين مصر وقبرص في 17 فبراير (شباط) 2003 فتحت الباب لدعوة دول إقليم شرق البحر المتوسط للتعاون في استخراج وتسييل وتصنيع وتسويق الغاز والنفط في الإقليم، وهو ما تجسد أولاً في تشكيل منتدى شرق البحر الأبيض المتوسط في يناير (كانون الثاني) 2019 والمكون من مصر وفلسطين والأردن وإسرائيل وقبرص واليونان وإيطاليا؛ وثانياً تخطيط الحدود البحرية بين اليونان وإيطاليا في يونيو (حزيران) من العام الحالي؛ وثالثاً ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان في 6 أغسطس (آب) 2020؛ ورابعاً توقيع اتفاق بين مصر وقبرص لنقل الغاز القبرصي إلى مصر لتسييله وإعادة تصديره مرة أخرى، واتفاق آخر بين شركة «مالفينس» المصرية وشركة «نوبل إنيرجي» الأميركية التي تدير حقول الغاز الإسرائيلية لنقل الغاز إلى مصر لتسييله وتصديره أو تصنيعه واستغلاله (قامت شركة «شيفرون» بشراء هذه الشركة في 20 يوليو/ تموز 2020 بمبلغ مقداره 13 مليار دولار). هذه التفاعلات السياسية والقانونية دارت حول اكتشافات الغاز في الإقليم، والتي بدأت باكتشاف إسرائيل لحقلي «تمار وليفثيان» وقبرص لحقل «إفروديت» ومصر لحقل «ظهر». وقدرت هيئة المساحة الأميركية مؤخراً احتواء حوض شرق البحر المتوسط ما بين 340 و360 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، تتراوح قيمتها المالية ما بين 700 مليار دولار و3 تريليونات دولار.
لكن إقليم شرق البحر الأبيض المتوسط لا يعبر فقط عن الحقائق «الجيو اقتصادية» المتعلقة بالثروة واستغلالها وتوزيعها وتحقيق الرخاء للدول الضالعة فيه، وإنما هو أيضاً يعبر عن حقائق «جيوسياسية» تبدأ أولاً أن الإقليم ملاصق لصراعات تاريخية ممتلئة بتناقضات المصالح وسباق التسلح مثل الصراع العربي الإسرائيلي والصراع اليوناني التركي. ورغم أن مصر والأردن وقعا معاهدتي سلام وتعاون مع إسرائيل في مجالات متعددة فإن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لا يزال ملتهباً رغم مشاركة فلسطين ممثلة في السلطة الوطنية الفلسطينية وإسرائيل في منتدى شرق المتوسط. كذلك، فإن الجوار الإسرائيلي مع كل من سوريا ولبنان لا يزال ملتهباً بفعل التدخلات الإيرانية في كلا البلدين. ورغم أن الولايات المتحدة حاولت ترسيم الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان، فإن المفاوضات لم تصل إلى نقطة الاتفاق. وثانياً أن الإقليم ملاصق للأزمة والحرب الأهلية السورية المستعرة لما يقرب من عقد الآن، والداعية إلى تدخلات من روسيا وتركيا وإيران، ما لبثت هي الأخرى أن خلقت نزاعات إضافية. وثالثاً أن تركيا باتت مهددة للإقليم بأكمله، ليس فقط نتيجة وقوعها أيضاً على مياه شرق المتوسط، وإنما نتيجة مجموعة من التناقضات التي تبدأ بخلافاتها مع اليونان على الحدود البحرية بينهما، وتشمل تناقضاً جوهرياً وتاريخياً على الجزيرة القبرصية المقسمة عسكرياً بين قبرص اليونانية العضو في الاتحاد الأوروبي، وقبرص التركية التي لا يعترف بكيانها كدولة إلا تركيا وحدها. ورابعاً أن تركيا قد حملت تناقضاتها التاريخية معها بعيداً وعميقاً في مياه البحر المتوسط حتى وصلت إلى ليبيا، والتي رغم أنها ليست متشاطئة مع تركيا، فإنها وقعت مع حكومة «الوفاق» فيها على اتفاقية لترسيم حدود بحرية غير موجودة من الأصل، اللهم إلا عبر مسافات بعيدة. التحركات التركية هكذا خلقت أزمة كبيرة في منطقة شرق المتوسط، كلها تبدو في ظاهرها أنها خلاف على من يحكم ليبيا، وربما رغبة في استغلال الموقف للحصول على بعض من ثرواتها النفطية، ولكن جوهرها هو أن تحصل تركيا على مقعد في مائدة شرق المتوسط، يكون من القوة بحيث يوفر اعترافاً بالدولة التي لا يعترف بها أحد، ويعطي تركيا مكانة الدولة الإقليمية العظمى التي تدفع بأساطيلها إلى البحر المتوسط لكي تتحرش بمصر واليونان، وحفاراتها للبحث عن حقول النفط والغاز في شرقه، بينما تحارب قواتها في العراق وسوريا شرقاً، وترسل مرتزقتها للقتال في ليبيا غرباً.
إقليم شرق البحر الأبيض المتوسط هكذا يبدأ من نقطة التعاون الاقتصادي الإقليمي الذي يوفر للدول المشاركة فيه فرصة للتنمية والتقدم والاعتماد المتبادل، حتى إقامة السلام وتسوية نزاعات قائمة. لكن تركيا في هذه المعادلة تمثل للقيادة التركية امتداداً آخر للعثمانية الجديدة؛ وما أعطى إردوغان الفرصة لهذا التمدد الاستراتيجي الكبير هو حالة الخلل في توازن القوى بين تركيا والدول العربية في الجنوب، وليس سراً على أحد أن كلاً من العراق وسوريا فقدا كثيراً من عناصر قوتهما، كما أن تركيا نجحت إلى حد كبير في تحييد العلاقة مع إيران من خلال العلاقات في سوريا والعراق، وكذلك تحييد إسرائيل، مرة بالصداقة والعلاقات الطيبة، ومرة بادعاء التمسك بحقوق الشعب الفلسطيني. مواجهة تركيا في شرق المتوسط، تتطلب تصحيحاً لتوازنات القوى العربية التركية، وإدارة استراتيجية لتحالفات شرق المتوسط تأخذ في الاعتبار طموحات وأطماع تركيا الحالية والمستقبلية.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

إقليم شرق البحر الأبيض المتوسط إقليم شرق البحر الأبيض المتوسط



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 00:54 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

روحي فتوح لتولّي رئاسة السلطة الفسطينية حال شغور المنصب
المغرب اليوم - روحي فتوح لتولّي رئاسة السلطة الفسطينية حال شغور المنصب

GMT 22:21 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يناقش إبعاد بعض وسائل الإعلام من البيت الأبيض مع نجله
المغرب اليوم - ترامب يناقش إبعاد بعض وسائل الإعلام من البيت الأبيض مع نجله

GMT 18:29 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي
المغرب اليوم - أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي

GMT 17:27 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
المغرب اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 13:12 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الحوت السبت 26-9-2020

GMT 13:22 2021 الأحد ,19 أيلول / سبتمبر

نادي شباب الريف الحسيمي يواجه شبح الانقراض

GMT 06:23 2023 السبت ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم السبت 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023

GMT 11:08 2023 الجمعة ,08 أيلول / سبتمبر

بلينكن يشيد بـ«الصمود الاستثنائي» للأوكرانيين

GMT 00:09 2023 الإثنين ,16 كانون الثاني / يناير

أسهم أوروبا ترتفع لأعلى مستوى في 9 أشهر

GMT 22:10 2022 الثلاثاء ,20 كانون الأول / ديسمبر

 خفض كبير لتوقعات نمو الاقتصاد الصيني من قبل البنك الدولي

GMT 20:18 2022 الإثنين ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

يعنى إيه أبل ترغب فى الحد من وقت AirDrop على مستوى العالم

GMT 04:46 2022 الثلاثاء ,25 تشرين الأول / أكتوبر

"الفيفا تبرئ حمد الله في نزاعه مع النصر السعودي
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib