المفتى يخاطب العالم

المفتى يخاطب العالم

المغرب اليوم -

المفتى يخاطب العالم

سليمان جودة
بقلم - سليمان جودة

لا حصر لها الأسباب التي تدفع اللبنانيّين، ولو من حيث المبدأ فحسب، إلى تغيير ولاءاتهم: الأزمة الاقتصاديّة وتبخّر الودائع، وانفجار مرفأ بيروت، وعدم الاستقرار السياسيّ والأمنيّ... لكنْ هناك أيضاً من العوامل الأخرى ما لا يشير معظم التحليلات السياسيّة الرائجة إليه. هذه العوامل - التي ترتفع فعاليّتها في البيئات الأقلّ تأثّراً بالولاء الطائفيّ الناجز والمغلق - يمكن أن نجمعها تحت عنوانين: الضجر والمزاج العامّ أو الحساسيّة العامّة.
نحن نعرف، مثلاً، أنّ هناك مزاجاً ثوريّاً عامّاً ضرب القارّة الأوروبيّة بعد الثورة الفرنسيّة، ولا سيّما بعد النابوليونيّة وحروبها. نعرف أيضاً أنّ عقد ستينات القرن العشرين عبّر عن مزاج تحرّريّ عامّ امتدّ من السياسة إلى الثقافة والموسيقى إلى القضايا الجندريّة والجنسيّة... هكذا بات هناك ما يُعرف بدراسة المزاج العامّ التي يهتمّ بنتائجها السياسيّون وصنّاع الرأي، وتعكف عليها كلّيّات ومراكز بحث تركّز على أسباب الظاهرات تلك. بعض تلك الأسباب مُوعىً وملموس يتعلّق بتطوّر الآلة والتقنيّات والمعارف، وكذلك بمعدّلات الدخل والبطالة، وبعضها غير مُوعى، تلعب فيه القيم والصورة والتأثّر بالآخرين دوراً مركزيّاً.
كارهو الإقرار بمزاج عامّ، وهم غالباً دعاة العقائد الأبديّة والقضايا الخالدة، يلجأون إلى تسخيفه: إنّه موضة، علماً بأنّ الموضة ليست سخيفة، وإن كانت قابلة للاستثمار أو للتصنيع أو للمبالغة، طلباً لربح ما أو لغرض آخر ما. لكنْ يبقى أنّ المشهد العامّ يعكس تغيّرات هذه الموضة: نجد ذلك في الشارع والملبس والأغنية وأدوات التواصل والكلمات التي تدخل إلى اللغة أو تُسحب منها... هناك ما يغدو بائداً وهناك ما يغدو صاعداً. من يستخدم اليوم الريشة في الكتابة، لا بل القلم، محلّ الكومبيوتر، يتحوّل شيئاً فشيئاً إلى شبيه بمن يستخدم الحصان للانتقال برّاً. وإذا كانت الريشة والحصان يقيمان، بعد استقالتهما، في ذاكرة رومنطيقيّة ما، فإنّ رفع السيف في وجه خصم أو عدوّ يندرج فوراً في كوميديا تشبه الكوميديا السوداء.
السياسة ليست منزّهة عن ذلك: في الستينات مثلاً كان مألوفاً مشهد الملصَق الذي يظهر فيه رجل غاضب وعابس وكثّ الشاربين يرفع البندقيّة أو الكلاشنيكوف بقبضة نافرة العضلات. اليوم بات ملصق كهذا يثير الشفقة على الرسّام والمرسوم. تعبير «رفيق» صار يُستخدم للدعابة وأحياناً للسخرية. تعبير «مناضل» غدا حكراً على من تجاوزوا السبعين. المفارقة تغدو أكبر حين يلجأ إلى هذه الترسانة الماضويّة دعاة التغيير «من أجل مستقبل أفضل». الشعارات أيضاً ليست بمنجاة من تغيّر المزاج: الموت في سبيل الوطن، أو الموت كي تحيا الأجيال الجديدة، فقدا الكثير من جاذبيّتهما مع تنامي شعور الفرد بذاته، والعمرُ، في آخر المطاف، قصير والحياة عزيزة.
بطبيعة الحال، فإنّ المزاج العامّ، في ظلّ وضع مأزوم اقتصاديّاً وثقافيّاً، قد يرتدّ إلى خيارات أسوأ ممّا هو قائم. الصعود الشعبويّ المتواصل منذ عقود ثلاثة مَثَل صريح على ذلك. لكنّ هذا الاحتمال لا ينبغي أن يحول دون الإقرار بالتغيّر ما دام أن التغيّر حاصل بذاته. وإقرار كهذا في وسعه دائماً أن يفتح باباً أعرض للتجريب والقطع مع المعهود: إذا فشل نهجٌ ما مرّة بعد مرّة بعد مرّة فلنجرّب نهجاً آخر.
الأمر نفسه يصحّ في الضجر. فهو أيضاً قد يدفع إلى خيارات متطرّفة وسيّئة أصيب أصحابها بالبرم أو باليأس من وضع راهن. لكنّ الضجر شعور إنسانيّ، لا قدرة على تجنّبه، يعمل في اتّجاهات شتّى ومتضاربة.
وكما أنّ العقائد الدهريّة لا تعبأ بتحوّلات الأمزجة، مدّعيةً السيطرة على عقل التاريخ ومجراه، فإنّ التوريث السياسيّ لا يعبأ تعريفاً بالضجر. ذاك أنّ التوريث بطبيعته التكراريّة هو الإضجار بعينه، ولأنّه كذلك فهو شديد العداء لأيّ إقرار بقوّة الضجر كفاعل سياسيّ.
وفي إحدى بيئات لبنان ثمّة ضجر كثير يفاقمه عدم الإقرار: ضجر من السياسيّين الوراثيّين الذين لا يجيد معظمهم تأليف عبارة مفيدة واحدة، وضجر من سياسيّين حافظوا، عقداً بعد عقد، على «الثوابت» التي يتصدرّها الولاء للحاكم الأمنيّ في دمشق والضرب بسيفه. لقد باتوا مضجرين في أشكالهم وأسمائهم وملابسهم وألقابهم الفخيمة وسيّاراتهم المفيّمة وبذاءاتهم التلفزيونيّة. وهناك ضجر آخر أنتجته أربعة عقود من مقاومة واحتلال وتحرير، وتحرير واحتلال ومقاومة، ودم وأشلاء وشهداء وصراخ وتهديد ووعيد وأصابع ممدودة في وجوهنا، واستعراض لمسلّحين سيحرّرون القدس ومسجدها الأقصى ولا يحرّرون شيئاً.
وإذا كان النجاح الدائم سبباً كافياً للضجر، فكيف بالفشل الدائم الذي يُطالَب اللبنانيّون بدفع أكلافه الباهظة؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المفتى يخاطب العالم المفتى يخاطب العالم



GMT 19:37 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

وانفقأ دُمّل إدلب

GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 07:52 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات ميغان ماركل في 2024 جمعت بين الرقي والبساطة
المغرب اليوم - إطلالات ميغان ماركل في 2024 جمعت بين الرقي والبساطة

GMT 08:27 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة
المغرب اليوم - نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة

GMT 08:45 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

أول رد فعل من داود حسين بعد إعلان سحب الجنسية الكويتية
المغرب اليوم - أول رد فعل من داود حسين بعد إعلان سحب الجنسية الكويتية

GMT 08:50 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

الكشف عن قائمة "بي بي سي" لأفضل 100 امرأة لعام 2024
المغرب اليوم - الكشف عن قائمة

GMT 16:38 2016 الجمعة ,23 كانون الأول / ديسمبر

إضافة 408 هكتارات من الحدائق والمساحات الخضراء في بكين

GMT 10:48 2019 السبت ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

جنون الريمونتادا

GMT 12:35 2019 الثلاثاء ,16 إبريل / نيسان

امرأة تعقد عقد جلسة خمرية داخل منزلها في المنستير

GMT 04:14 2019 الخميس ,31 كانون الثاني / يناير

ارتفاع سعر الدرهم المغربي مقابل الريال السعودي الخميس

GMT 10:06 2019 الثلاثاء ,29 كانون الثاني / يناير

الطاعون يلتهم آلاف المواشي في الجزائر وينتشر في 28 ولاية

GMT 03:21 2019 الجمعة ,25 كانون الثاني / يناير

إعادة افتتاح مقبرة توت عنخ آمون في وادي الملوك

GMT 10:21 2019 السبت ,12 كانون الثاني / يناير

فضيحة جنسية وراء انفصال جيف بيزوس عن زوجته

GMT 09:04 2018 الأربعاء ,12 كانون الأول / ديسمبر

والدة "راقي بركان" تنفي علمها بممارسة نجلها للرقية الشرعية

GMT 05:06 2018 الإثنين ,10 كانون الأول / ديسمبر

جمهور "الجيش الملكي" يُهاجم مُدرّب الحراس مصطفى الشاذلي

GMT 06:44 2018 الخميس ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

"Il Falconiere" أحد أجمل وأفضل الفنادق في توسكانا

GMT 00:44 2018 الخميس ,25 تشرين الأول / أكتوبر

اكتشف قائمة أفخم الفنادق في جزيرة ميكونوس اليونانية

GMT 15:10 2018 الإثنين ,13 آب / أغسطس

شركة دودج تختبر محرك سيارتها تشالنجر 2019

GMT 19:15 2018 الأربعاء ,01 آب / أغسطس

يوسف النصري علي ردار فريق "ليغانيس" الإسباني
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib