عالم جديد سلاحٌ وركام

عالم جديد... سلاحٌ وركام

المغرب اليوم -

عالم جديد سلاحٌ وركام

غسان شربل
بقلم : غسان شربل

لا تلصق دموعَك على زجاج الأمم المتحدة. المبنى كئيبٌ وهيبتُه ركام. لا ضماناتُه تضمنُ ولا ضمَّاداته تشفي. تعرض في القرن الحالي لضربتين قاصمتين. وها نحن في الغابة. إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب.

جاءت الضربة الأولى قبل عقدين. في مناخ هجمات 11 سبتمبر (أيلول) قررت إدارة جورج بوش الابن اقتلاع نظام صدام حسين. فبركت أعذاراً تبيَّن لاحقاً بطلانُها. لم يكن نظامُ صدام عطرَ السمعة، لكن ارتكاباته لا تعطي شرعية للغزو الأميركي. سقط نظام صدام لكن الغزوَ أخلَّ بتوازنات تاريخية في المثلث العراقي - التركي - الإيراني، وخارجه. التقطت إيران الفرصة، فصدَّرت جمرَ ثورتها وميليشياتها إلى 4 خرائطَ عربية، وتلوّى الشرق الأوسط على ألحان زعزعة الاستقرار. وسرعان ما تبيَّن أنَّ أميركا، الاستخبارات والجامعات ومراكز الأبحاث، لا تعرف العراق والعراقيين. توهَّمت أنَّ العراقيين سيرشقون دباباتِها بالورود، وسيسارعون إلى اعتناق نموذج غربي، متجاهلة حقائقَ التركيبة الاجتماعية والثقافية والدينية والأقدار الجغرافية. غيَّر الغزو الأميركي بعض ملامح الشرق الأوسط، لكنَّه لم يغير ملامحَ العالم.
حاولت الأمم المتحدة تضميدَ جروحها. لكن بعد ما يقرب من عقدين جاءتها طعنة أشدُ هولاً. ففي 24 فبراير (شباط) الماضي اجتاح الجيش الروسي الأراضي الأوكرانية معيداً الحربَ إلى القارة الأوروبية ومسقطاً قداسة الحدود الدولية، وموحياً أن الخرائط قابلة للتعديل على وقع الصواريخ والدبابات والمسيرات. برَّرت موسكو الغزوَ بالرغبة في اقتلاع «النازيين» وتحرير الروس المسجونين في الخريطة الأوكرانية من التهميش والتنكيل. وسرعانَ ما تبيَّن أن روسيا التي تفاخر بخبرتها واستخباراتها لا تعرف أوكرانيا الحالية التي تقاسمها الانتماء السلافي والأرثوذكسي، وكانت تقاسمها السرير السوفياتي. سوءُ التقدير الأميركي في العراق فاقه سوءُ التقدير الروسي في أوكرانيا. لم تسقط كييف ولم ترفع الراية البيضاء. لم يلجأ زيلينسكي إلى سفارة ولم يفر إلى الخارج. وسارعَ الغرب إلى ضخ الأسلحة والمليارات في العروق الأوكرانية. أظهرت شهورُ الحرب بطلانَ ما قاله الكرملين إن أوكرانيا لم تكن يوماً دولة مستقلة، وإنها مجرد اختراع سوفياتي. لكن الحرب التي فشلت في تغيير النظام الأوكراني حقَّقت نجاحاً في تغيير العالم حين أطلقت أكبر عاصفة من المخاوف منذ الحرب العالمية الثانية. وفي الضربة الثانية، كما في الأولى، وقف مجلسُ الأمن مشلولاً، فموجّهُ الطعنة عضو في نادي الدول الدائمة العضوية، وسيف «الفيتو» حاضرٌ في يده.
واضحٌ أن «القوة العظمى الوحيدة» أساءت التعامل مع روسيا الخارجة من الركام السوفياتي. لم تلتفت إلى العاصفة الكامنة في الروح الروسية وعقدة الحصار التاريخية. واضحٌ أيضاً أن أوكرانيا لم تحترم موجبات القدر الجغرافي حين اعتنقت نموذج الثورات الملونة، وارتكبت أحلاماً أطلسية. لكن كل ذلك لا يعطي شرعية للاجتياح الروسي والجراحة القسرية للخريطة الأوكرانية. طبعاً من دون أن ننسى أنَّ بوتين اعتبر اجتذاب «الرفاق» القدامى إلى حلف «الناتو» نوعاً من سرقة الأعضاء من الجسد السوفياتي - الروسي.
ليست المرة الأولى التي تترك روسيا فيها بصماتِها على ملامح العالم. في العقد الثاني من القرن الماضي هزَّ فلاديمير لينين العالم حين سيطرَ حزبه على القارة التي تنام مع ثرواتها تحت الثلج وأطلق مشروعاً كبيراً لتغيير العالم. وبعد 5 عقود كانت إمبراطورية ورثة لينين أكبر بكثير من إمبراطورية بطرس الأكبر، قبل أن تتطاير في عهد ميخائيل غورباتشوف. تركت روسيا بصماتها على العالم حين دفعت نهراً من الدماء في «الحرب الوطنية الكبرى» التي خاضها جوزيف ستالين وأذهل العالم بملحمة ستالينغراد. ضابط صغير من الـ«كي جي بي» كان يرابط في ألمانيا الشرقية حين هبَّ عصر الانهيارات. شعرَ باليتم، وسيطل لاحقاً من الكرملين حاملاً مشروعاً للثأر، تعتبر الحرب في أوكرانيا عمودَه الفقري، مشروعاً للثأر من الغرب ونموذجه ومن أميركا وهيمنتها ودولارها.
قبل أن تطفئ الحربُ الأوكرانية شمعتَها الأولى الشهر المقبل، يمكن الحديث عن احتمالات حرب طويلة في ضوء سوء تقدير متبادل. أساء الكرملين تقدير قدرة جيشه على انتصار سريع، وها هو يتكئ على مجموعة «فاغنر». أساء الغرب تقديرَ قوة عقوباته على إنهاك الاقتصاد الروسي الذي يموّل الحرب. والحقيقة أن الهجوم الروسي نجح في تغيير العالم أكثر مما نجح في قلب المعادلات في الميدان الأوكراني.
طرحت الحرب الأوكرانية أسئلة صعبة وحساسة حول مستقبل أوكرانيا وحول هشاشة البيت الأوروبي المدمن على استهلاك الطاقة الروسية. أعادت الحربُ موضوعَ السلاح النووي إلى الطاولة. سلطت الحربُ الضوءَ على الصعود الصيني، وطرحت سؤالاً شائكاً، مفاده إذا سلَّم الغرب بـ«حق» روسيا في ضم مقاطعات أوكرانية، فكيف سيتصدَّى لحق الصين في إعادة تايوان إلى حضن الوطن الأم؟ طرحت أيضاً مسائل معقدة تتعلَّق بالعولمة وسلاسل التوريد وسباق التسلح الذي سيستنزف جزءاً غير قليل من قدرات ما كان يسمى «القرية الكونية».
تغيَّر العالم، ولم يعد أحد يراهن جدياً على القانون الدولي ومكتب غوتيريش. الدول القلقة تلتفت إلى جيرانها وترى الضمانة في تطوير ترساناتها. تبحث الدول عن أسلحة أشد فتكاً وعن مظلات حامية. ليس بسيطاً أن تطوي ألمانيا صفحة سياستها الدفاعية السابقة وتعلن عن تخصيص 100 مليار يورو لتطوير ترسانتها. هاجس ألمانيا مضاعف وأكثر لدى اليابان. عروض القوة الروسية - الصينية قبالة تايوان ضاعفت قلق طوكيو؛ خصوصاً حين ترافقت مع الألعاب الصاروخية للزعيم الكوري الشمالي. روسيا ليست بعيدة هي الأخرى، والنزاع معها على الجزر باقٍ. شعرت اليابانُ بحاجتها إلى ترسانة تصلح للتعامل مع المفاجآت. ترسانة تستطيع صواريخها ضرب أهداف بعيدة، وبتنسيق أعمق مع الترسانة الأميركية. ضاعفت اليابان إنفاقها الدفاعي لتتقدم إلى الموقع الثالث في العالم بعد أميركا والصين. زيارة رئيس الوزراء الياباني إلى واشنطن رسالة صريحة تعلن ولادة يابان تستعد للاستحقاقات الصينية والكورية الشمالية والروسية. عملياً انضمت ألمانيا واليابان إلى سباق التسلح في عالم غامض وخائف ومتوتر، تراجع فيه الرهان على القوة الناعمة. نقيم الآن في عالم آخر. انتهى العالم الذي ولد من الركام السوفياتي، لكن العالم الجديد يعد بكثير من الركام.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عالم جديد سلاحٌ وركام عالم جديد سلاحٌ وركام



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ المغرب اليوم
المغرب اليوم - المغرب يفقد 12 مركزاً في تصنيف مؤشر تنمية السياحة والسفر لعام 2024

GMT 08:59 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته
المغرب اليوم - أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته

GMT 02:13 2018 الأربعاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

تمثال لدبين قطبيين يُثير ذهول عملاء مركز تسوق

GMT 07:35 2016 الأحد ,18 كانون الأول / ديسمبر

أفضل مناطق لسياحة التزلج على الجليد في أوروبا

GMT 14:22 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

زلزال بقوة 3.2 درجة تضرب ولاية "مانيبور" الهندية

GMT 19:58 2020 الخميس ,09 كانون الثاني / يناير

أسماك القرش تنهش جثة لاعب كرة قدم في أستراليا

GMT 18:31 2019 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

تشابي ألونسو يؤكد جوارديولا سبب رحيلي عن ريال مدريد

GMT 21:58 2019 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

لطيفة رأفت تلهب مواقع التواصل الاجتماعي بمظهر جذاب

GMT 19:58 2019 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

دراسة تكشف عن قدرات النمل في علاج نفسه والنباتات

GMT 16:57 2019 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

تأجيل مباراة الرجاء البيضاوي ورجاء بني ملال

GMT 13:23 2019 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

لعبة SPIDER-MAN الأكثر مبيعا داخل اليابان في سبتمبر

GMT 15:35 2019 الأربعاء ,27 آذار/ مارس

وفاة شخص في حادثة سير خطيرة وسط الدار البيضاء
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib