أفريقيا احذر الحرس الجمهوري

أفريقيا... احذر الحرس الجمهوري

المغرب اليوم -

أفريقيا احذر الحرس الجمهوري

غسان شربل
بقلم : غسان شربل

من حق الرئيس أن يُبحرَ في نومٍ عميق. ماذا يريد الشعبُ أكثر؟ ألقَى بنفسه في النار من أجل إنقاذه. يحرق أيامَه لينيرَ له الطريق. دعك من أحقادِ الصحافيين والمغردين. ومن لعاب المعارضين الذي لا همَّ لهم غير الانقضاض على الوليمة. ومن معدلات الفقر والبطالةِ والأمية. ومن الحديثِ خلف الستائر عن الأموال المنهوبة والمهدورة. وعن أرصدة الحاشية في المصارف البعيدة. وأنينِ السجناء في المعتقلات. ودعك خصوصاً من الدستور. موظف جبان. إذا ارتكبَ خطيئة رسم حد لإقامة الرئيس يسارع إلى الانحناء ويجعلها مفتوحة على مصراعيها. ولا تتوقَّف طويلاً عند هذه الملاحظات التي يدبّجها السفراء إلى رؤسائهم في الغرب عن الانتهاكات لحقوق الإنسان ونقص الشفافية وتوظيف القضاء للقضاء على المعارضين. الديمقراطية نبتةٌ غربية لا تعيش إلا في ترابها. نحن تناسبُنا العقاقيرُ المأخوذة من رحم مجتمعاتِنا بأمراضها وتقاليدها وأعرافها.     من حقّه أن ينام. مصيره في أيدٍ أمينة. الحرسُ الجمهوري مضمونٌ. قائده من لحمِ النظام. من منطقة القائد وإثنيته ومجموعتِه. تم اختيارُ مساعديه بعناية وهناك من يحصي أنفاسَهم. الحرس ليس مجردَ حرس. إنَّه قوةٌ ضاربة. وفَّرنا له أحدثَ الأسلحة. أخضعنا أفرادَه لأفضل أنواع التدريب. فرنسا أو إسرائيل أو «فاغنر». الأسلحة والولاء يجعلان القصرَ قلعة، شوكةً في عيون الحاسدين. ثم إنَّ «القوات الخاصة» مجرد امتداد للحرس ومن فئة الدَّم نفسِها. وهذا يعني أنَّ الإذاعة منيعةٌ و«البيانَ رقم واحد» لن يصدرَ أبداً.

يسرف الرئيسُ في الطمأنينة. ينسى أن رياحَ الخيانة لا تهبُّ عادة من مكان بعيد. وأنَّ الطعنةَ تأتي دائماً من رجل قريب ومكان قريب. من الحرس الجمهوري أو القوات الخاصة. من رجل أمضى سنواتٍ يؤدي التحيةَ ويُقسم أن يبذلَ دمَه دفاعاً عن رئيسه. هذا ما مرَّ في بالي وأنا أتابع مسلسلَ الانقلابات العسكرية في أفريقيا. دائماً هناك كولونيل ينظر إلى ساعته. يعتقد أنَّه المنقذ. وأنَّه يملك حلولاً سحريةً للفقر والبطالة، وصولاً إلى الاحترار المناخي. كولونيل جائعٌ إلى رغيف السلطة.

تذكَّرت ما سمعته من قائدٍ للحرس في العراق. إنَّه الفريق الركن إبراهيم الداود. كانَ الرئيس عبد الرحمن عارف مطمئناً. الحرسُ الجمهوري في يد إبراهيم الذي أقسمَ أكثرَ من مرة على الولاء الكامل لرئيسِه. وحين تلقَّى عارف معلوماتٍ عن تحركاتٍ ضده لم يخفِ طمأنينته. قال: «سيأتيهم إبراهيم». لم يكن يعرف أنَّ إبراهيم هو من فتحَ بابَ القصر في يوليو (تموز) 1968 أمام من اصطفوا على مدخله، وكان بينهم صدام حسين وصلاح عمر العلي وبرزان التكريتي رفاق أحمد حسن البكر.

سألت الداود ذاتَ يومٍ لماذا خان صديقَه فقال إنَّ عبد الرحمن عارف كان رئيساً لكنَّه يتصرَّف كموظف ينظر مراتٍ عدة إلى ساعته للتأكد من اقتراب نهاية الدوام، وشاعت أنباء عن فساد عددٍ من أصدقائه. البعثيون الذين احتاجوا إلى مفتاح الداود لدخول القصر منحوه لقبَ وزير الدفاع، لكنَّهم خانوه قبل نهاية الشهر ودفعوه إلى المنفى.

لنعد إلى أفريقيا. قبل حفنة سنوات كان الاعتقاد السائد أنَّ القارةَ السمراء طلَّقت أسلوبَ الانقلابات العسكرية الذي استشرى فيها بين السبعينات والتسعينات، أي في خضم الحرب الباردة. كُتب الكثيرُ عن الدروس المستفادة من تجاربِ أجيال من العسكريين اجتاحت الإذاعاتِ والقصورَ الرئاسية بشعارات براقة، ثم انتهت على دوي انقلاب آخر أو اضطرابات أو انتفاضات. في السنوات الثلاث الأخيرة عدنا إلى زمن الكولونيلات في أكثر من بلد في غرب أفريقيا ووسطها. وهكذا تابعنا ما حدث في مالي وغينيا وبوركينا فاسو والنيجر وصولاً إلى الغابون وبعد المرور بتشاد. بدت الأيامُ الأفريقية صعبةً. ثمانية انقلاباتٍ في ثلاثِ سنوات واضطرابات ومرتزقة وإطلالات لـ«داعش» وأشباهه.

تأتي عاصفة الانقلابات هذه في توقيت حرج على الصعيد الدولي. القارة الأوروبية نفسُها ترتجُّ على دوي الحرب الروسية في أوكرانيا. مجلس الأمن معطلٌ عملياً، والمواجهة على أرض أوكرانيا هي في جوهرها مواجهة غربية - روسية حاسمة. يُضاف إلى ذلك أنَّ العلاقات الأميركية - الصينية تشهد أزمةً غير مسبوقة منذ خمسين عاماً حين نجح هنري كيسنجر في «افتتاح» القارةِ الصينية للجمِ شهواتِ الاتحاد السوفياتي. أبرزُ ملامحٍ الضَّعف ظهرت في القارة الأوروبية نفسِها التي سارعت إلى الاحتماء تحت المظلة الأطلسية والسخاء الأميركي لـ«منع بوتين من الانتصار». لم تستطع فرنسا وراثةَ دورِ بريطانيا التي قفزت من المركب الأوروبي، ولم تستطع وراثةَ الدور الألماني بعد غياب أنغيلا ميركل. كشفت الانقلابات في الساحل الفرنسي أنَّ فرنسا لم تعد كما كانت. لم يعد من السهل عليها تَكرارَ ما فعلته سابقاً، يومَ كانت توفد قواتِها لإعادة حاكمٍ صديق خلعه انقلاب.

الواضحُ أنَّ فرنسا لم تنجح في احتواء المشاعر الموروثة في القارة عن حقبة الاستعمار. جدَّد المشاعرَ السلبيةَ إحساسُ الأفارقةِ في دول عدة أنَّ الورقةَ الأهم التي يملكها الحاكمُ هي ورقةُ الدعم الفرنسي له، في مقابل فتحِه الأبوابَ للشركات الفرنسية التي لم تتردَّد في توزيع «هداياها» على أهل القرار. نظر كثيرٌ من الشباب إلى الحكومات المتعاقبة وكأنَّها قناعٌ لسياسة فرنسا في الحصول على خيرات أفريقيا. طبعاً لا يمكن تحميل فرنسا وحدَها المسؤولية. المسؤوليةُ تقعُ بالدرجة الأولى على من تلاعبوا بالدساتير، ورفضوا بناءَ المؤسسات، وتحسينَ فرصِ العمل والتعليم والرعاية الصحية. وخابَ ظنُّ الأفارقةِ من صناديق الاقتراع، لأنَّها غالباً ما تمخَّضت عن نتائج لا تتعدى توفيرَ الغطاء للسياسات القائمة. وعلاوة على ذلك أيقظت بعضُ السياساتِ الفئوية جمرَ النزاعات العرقية والإثنية والجهوية.

أفريقيا قارةٌ شابة. ستكون قبل انتصافِ القرن الحالي عملاقاً سكانياً إلى جانب الصين والهند. ستكون سوقاً هائلة، ويمكن أن تكونَ مصنعاً كبيراً إذا قُيّض للتعليم فيها أن يؤهلَ شبانَها وشاباتِها للانخراط في الإنتاج وفق مقتضيات العصر. وأفريقيا تنام على ثروةٍ من النفط والغاز، وأهم منهما المعادن التي تغري بكين وواشنطن معاً. على أرضِ هذه القارة أربعةُ لاعبين. فرنسا التي يبدو دورُها مرشحاً للتراجع. وروسيا التي قد ينحسر دورُها بفعل حربِها في أوكرانيا. التنافسُ الشديد قد ينحصرُ بين أميركا والصين. وفي ظلّ الوضع الدولي الحالي والفشل الأفريقي الواسع، من حق العالم أن يتوقَّعَ «خياناتٍ» جديدةً من الحرس الجمهوري هنا وهناك. والحرس لاعب؛ مرة إذا بادرَ إلى إطاحة الرئيس ومرة أخرى حين يرفضُ الدفاعَ عنه.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أفريقيا احذر الحرس الجمهوري أفريقيا احذر الحرس الجمهوري



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 18:29 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي
المغرب اليوم - أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي

GMT 17:27 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
المغرب اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 13:12 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الحوت السبت 26-9-2020

GMT 13:22 2021 الأحد ,19 أيلول / سبتمبر

نادي شباب الريف الحسيمي يواجه شبح الانقراض

GMT 06:23 2023 السبت ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم السبت 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023

GMT 11:08 2023 الجمعة ,08 أيلول / سبتمبر

بلينكن يشيد بـ«الصمود الاستثنائي» للأوكرانيين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib