قطرة لقاح وقطرة أمل

قطرة لقاح... وقطرة أمل

المغرب اليوم -

قطرة لقاح وقطرة أمل

غسان شربل
غسان شربل

تعبنا من إحصاء الخسائر. وتحديث عدد الوفيات وعدد الإصابات. استنزفنا قدرتنا على الهجاء والرثاء. وها نحن نعتاد على زمن القسوة. مدن خانها النبض وغادرتها الألوان فانحسرت كما كهوف الظلام. شوارع يحرسها اليأس ولا تدوي فيها إلا أصوات سيارات الإسعاف. يطلُّ الفجر كمن يعتذر لارتكابه ذنب المجيء. يمضي النهار نهاره حزيناً خلف كمامته.
تعبنا. هذه الحرب العالمية التي اندلعت شرارتها من ووهان الصينية أكبر من قدرتنا على الاحتمال. لم يرتكب الإنسان أصلاً معصية تليق بعقاب لا رحمة فيه. هذا أفظع من كل ما قرأناه لأشرس المخيلات وأقساها. كأنَّ قائداً غامضاً لجيش لا ينتهي ينزل يده السوداء على المدن والأرياف وعلى البر والبحر. أفظع من هولاكو. وأقسى من جنكيزخان. كأنَّ جنوداً من حديد يدقون أعناق من نجح سفراء الوباء في اصطيادهم. والخيارات محدودة؛ القتل الفوري أو التعذيب الممنهج. السقوط في قبضة الفيروسات أشد وطأة من السقوط في زنزانات المخابرات في عهدة عباقرة التعذيب.

تعبنا. استنزفنا مختلف أنواع العناوين. واعتدنا على التصفيق لبطولات الجسم الطبي وتضحياته وهي هائلة وعظيمة. هذه الحرب تفوق القدرة على الاحتمال. قتل خالص بلا أوهام تعويض أو ترضية. تتلقى مشلولاً نبأ مغادرة حبيب أو صديق أو غريب. وتبقى ملازماً هذا الشلل المريع. الاقتراب ممنوع. يبخل القاتل على أهل القتيل بحق المصافحة وتقبل الوداع. يبخل عليهم بحق العناق. لا يُرشق نعشٌ بوردة. لا تستلقي على خشبه يد أم أو أخت أو صديقة. لا تمطر دمعاً على حوافي النعوش الهاربة إلى التراب. هذه الحرب العالمية أقسى من كل ما عرفناه وما قرأناه.
يستعد العالم لورشة غير مسبوقة. تكفي الإشارة إلى أنَّ عدد الوفيات زاد على المليونين، وعدد الإصابات فاق مائة مليون. يصعب إيراد رقم دقيق للخسائر الاقتصادية، فهي تتراكم مع مرور الساعات وتتخطى حتى تلك السيناريوات التي اتهمناها بالمبالغة في بدايات المحنة. الخبراء الذين قالوا قبل شهور إن الأزمة الحالية أخطر من الأزمة المالية التي شهدها العالم في نهايات العقد الأول من القرن الحالي يذهبون أبعد اليوم في قراءة الأرقام. قسم يقول إنها أعمق أزمة تضرب العالم منذ الحرب العالمية الثانية، في حين يقول قسم آخر إن العالم لم يعرف مثيلاً لها منذ قرن كامل.
ولا يحتاج المرء إلى كبير عناء للتأكد من هول الكارثة. الخسائر الإنسانية هائلة، ومثلها الصور التي ستعلق في البيوت مذكرة بتلك الأيام المثقلة بمشاعر الخوف والعزلة والتباعد عن الأحباء والأصدقاء. كان الإنسان واثقاً ومنشغلاً بحياته وفرص العيش والاستهلاك ومعارك كل يوم حين أطل وباء، وأعاد طرح الأسئلة الصعبة عن السلامة والخطر والحياة والموت وكفاءة الجهاز الصحي، وقدرة العلماء على التعجيل بتأهيل العالم لمواجهة الوحش الذي أنشب أظافره في رئتيه.

ليس سهلاً أبداً ما نعيشه وما سنتذكره لاحقاً. كل آخر مصدر محتمل للخطر. كل آخر يمكن أن يدفعك إلى سرير المستشفى وربما أبعد منه. احترس. هذا ليس عالم المصافحات. ولا عالم العناق. ولا عالم ملاعبة الصغار. إنهم مصدر خطر عليك وأنت مصدر خطر عليهم. إذا غلب الحنين ابنك يغتنم الطقس الصحو ليحضر إلى الحديقة ويخاطب والدته من بعيد ومن وراء كمامته. تلجم آلام مشاعرها. هذا استقبال لا يليق بفلذة كبدها. تتجرّع مقهورة نصائح المذيعين وتحذيرات الخبراء.

لا حل أمامك غير أن تتقلّص إلى داخل منزلك. وتتسلح بالكمامات والمطهرات. هذا ليس زمن التحلق حول الطاولات في المؤسسات. دعك من حديث حرارة التقارب الإنساني واحتكاك الأعين والأفكار عن قرب. أنت مصدر خطر عليهم وهم مصدر خطر عليك. الأخطار حاضرة في كل مكان. في سيارتك. وفي المرأب. وفي المصعد. وفي المكتب. وفي الأجهزة. وأقسى من ذلك كله أن هذه الصحف التي كان لا يزال هناك من يبتهج بتقليب صفحاتها، ولو من باب تكريم الخيول الأصيلة والقديمة، صارت تعتبر بدورها مصدراً للأخطار لا للأخبار.
الخطر سيد المدينة وسيد الأحكام. الذهاب إلى المتاجر مثير للقلق. والمطاعم أسدلت ستائرها واعتذرت عن استقبال روادها. والمقاهي شاخت من فرط الانتظار. وأمام المتاجر التي لا بدَّ من فتحها لرد الجوع يتباعد الناس في صفوف كئيبة يتبادلون نظرات حذرة، كأن كل واحد يحاول استكشاف أين يكمن له الفيروس اللعين.
طالت الإقامة الجبرية بين الجدران. تراجع عدد من كانوا يغامرون بالذهاب إلى الحديقة العامة القريبة. أخافتهم حكايات السلالات المتحورة التي تملك قدرة استثنائية على القتل والانتشار، وكأنها سلالات جديدة من الصواريخ تستعد للانقضاض على أهداف مدنية. لازم السكان منازلهم ولا شيء يضيء عتمة انتظارهم إلا أمل وصول اللقاح واقتراب ساعة التحصّن ضد الوباء.
فاجأت هذه المحنة العالم. لم يتوقع الناس أن يطل خطر من هذا النوع، ويحدق بإنسان هذا العصر الذي يواصل فضَّ أسرار الكون بتلك المركبات التي تذهب بعيداً ثم تعود لتقلص مساحة المخفي والمجهول. ساد لدى الناس اعتقاد أن هذه الثورات العلمية والتكنولوجية المتواصلة التي نشهدها قادرة على تقدير رد حاسم وسريع على أي خطر يطل برأسه. إنَّها ثقة إنسان هذا القرن بما حققته العلوم من فتوحات في النظرية والتطبيق.

تعبنا من الهجاء وتعبنا من الرثاء. نحتاج إلى ضوء للخروج من هذا النفق. نحتاج إلى قطرة لقاح تساعدنا على التصدي لفيروسات الذعر والموت المحدقة بالعالم. ولم يخيبنا العلماء وها هم يعدون اللقاحات بسرعة قياسية. ونحتاج إلى قطرة أمل من حكومات محترمة لترميم فاعلية الاقتصادات المتصدعة. نحتاج إلى حكومات تتَّسم بالكفاءة والنزاهة للتصدي لأمواج الفقر العاتية التي أطلقها تسونامي الوباء ولاستخلاص العبر؛ خصوصاً أن الخبراء يحذرون من أن «كورونا» لن يكون القاتل الأخير.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

قطرة لقاح وقطرة أمل قطرة لقاح وقطرة أمل



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ المغرب اليوم
المغرب اليوم - المغرب يفقد 12 مركزاً في تصنيف مؤشر تنمية السياحة والسفر لعام 2024

GMT 16:56 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

مفاوضات غامضة بين محمد صلاح وليفربول وسط تصريحات مثيرة للجدل
المغرب اليوم - مفاوضات غامضة بين محمد صلاح وليفربول وسط تصريحات مثيرة للجدل

GMT 08:59 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته
المغرب اليوم - أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته

GMT 08:25 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

اندلاع حريق ضخم في موقع لتجارب إطلاق صواريخ فضائية في اليابان
المغرب اليوم - اندلاع حريق ضخم في موقع لتجارب إطلاق صواريخ فضائية في اليابان

GMT 02:13 2018 الأربعاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

تمثال لدبين قطبيين يُثير ذهول عملاء مركز تسوق

GMT 07:35 2016 الأحد ,18 كانون الأول / ديسمبر

أفضل مناطق لسياحة التزلج على الجليد في أوروبا

GMT 14:22 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

زلزال بقوة 3.2 درجة تضرب ولاية "مانيبور" الهندية

GMT 19:58 2020 الخميس ,09 كانون الثاني / يناير

أسماك القرش تنهش جثة لاعب كرة قدم في أستراليا

GMT 18:31 2019 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

تشابي ألونسو يؤكد جوارديولا سبب رحيلي عن ريال مدريد

GMT 21:58 2019 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

لطيفة رأفت تلهب مواقع التواصل الاجتماعي بمظهر جذاب

GMT 19:58 2019 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

دراسة تكشف عن قدرات النمل في علاج نفسه والنباتات

GMT 16:57 2019 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

تأجيل مباراة الرجاء البيضاوي ورجاء بني ملال

GMT 13:23 2019 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

لعبة SPIDER-MAN الأكثر مبيعا داخل اليابان في سبتمبر
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib