لا مبرر للبكاء على رائحة الحبر

لا مبرر للبكاء على رائحة الحبر

المغرب اليوم -

لا مبرر للبكاء على رائحة الحبر

غسان شربل
بقلم : غسان شربل

اخترت زاوية في المقهى لكتابة مقالي. منعني انقطاع الكهرباء في بيروت من الكتابة في المنزل. ولا مشكلة في الأمر، فأنا لست مصاباً بطقوس الكتابة. لا تسمح المهنة بمثل هذه الرفاهية. لا بدَّ من الكتابة في البيت أو الفندق أو المطار أو القطار. بدأت الكتابة عن العراق الذي يتقلَّب على نار التغريدات وسط تعطل المؤسسات. فجأة اقتربَ مني أحد قراء «الشرق الأوسط» وسألني إن كانت لديَّ بعض دقائق. وأنا لديَّ دائماً أكثر من دقائق، لأنني لا أعمل في مهنة أخرى ولا أجيد.
توقَّعت أن يلفتني القارئ إلى خطأ ما في اللغة أو طريقة التناول أو التعامل مع حدث شائك. والحقيقة أنَّني اعتبر محكمة القارئ أقسى المحاكم التي نمثل أمامها. ولا أجد غضاضة في الاعتراف بخطأ أو تقصير، فقد أثبتت التجارب أن لا شيء يقتل الصحيفة والصحافي كالغرور الذي يمنع التصحيح والتصويب. أخطأت التقدير إذ إنَّ الأسئلة كانت أبعد من ذلك. سألني إن كنت أعتقد أنَّ الصحافة في طريقها إلى الموت، لافتاً إلى أن القارئ بات يغرق في بحر من المواقع وكثير منها يفتقر إلى الصدقية والمهنية الصارمة. وكان ردّي أنَّ الصحافة لا تموت تماماً كالأغاني والوشايات والتقارير لكنَّها تتبدّل. وقلت إنّه يبقى على قيد الحياة من يستحق الحياة، أي من لا يقع أسير قدسية الماضي، ويرفض ما يدخله العصر من تغييرات في الروح والأزياء.
لفتني إلى أنَّه لم يعد يثق بما يقرأ في مواقع التواصل الاجتماعي حيث تلمع العصبيات وتتدفَّق الكراهيات. أجبت أنَّ التطور سريع كتلاحق الأمواج وأنَّ التجربة وحدها ستفرض التسليم بحد من الضوابط المهنية، وإيجاد صيغ قانونية حديثة تحمي الأفراد والمجتمعات من المتفجرات التي توزعها الميول الشعبوية وعقلية المزايدات، والسعي إلى توسيع الانتشار بأي ثمن حتى لو اقتضى الأمر المتاجرة بأخبار رخيصة أو مؤذية.
طال النقاش. قال الرجل المسنُّ إنَّه يشعر بالغربة في بحر الإعلام الحالي. تحدَّث عن متعة تقليب الصحيفة مع قهوة الصباح. قال إنَّ العلاقة مع الأخبار عبر الهاتف تفتقد إلى الثقة والحرارة واللمسة الشخصية. لاحظ أنَّني لم أدافع عن هذا الماضي العريق مبدياً أسفه لغياب رائحة الحبر التي كانت تربط القارئ بالكاتب.
أكنُّ تقديراً عميقاً للمحبّرين والمصابين بالحنين إلى رائحة الحبر. لكن تجربتي تفيد، بعد العمل في 3 صحف هي «النهار» و«الحياة» و«الشرق الأوسط»، بأنَّ التكنولوجيا أكثرُ وفاء للكتاب والصحافيين من رائحة الحبر. أخذت التكنولوجيا مقالاتهم ومواضيعهم إلى أماكن كان يتعذّر على الحبر الوصول إليها. حفظت إنتاجَهم وجنّبته شيخوخة الأوراق والكتب وتجعد الصفحات واصفرارها. التجربة نفسها تقول إنَّ الجلوس على ضفة النهر لا يعد بغير البكاء على الماضي. لا بد من الخوض في النهر. نهر العصر والتحول والتغير والابتكار واكتساب مهارات جديدة وأساليب جديدة. الموت عقاب من لا يتحول، سواء أكان فرداً أم مؤسسة.
لا يمكن إنكار الدور الذي لعبته المؤسسات العريقة في إعداد أجيال من الصحافيين. تعلمت أنَّ العمل الناجح هو ثمرة عمل فريق وتوزيع دقيق للأدوار. وأنَّ زمن اللاعب الوحيد مضى وانقضى. تحتاج إلى هداف ومدافع وقلب وسط وحارس مرمى ومدرب، وتحتاج قبل ذلك إلى التناغم وروح الفريق. وتعلمت أنَّ تعدد النجوم يثري الروح والمكان، ويغري أجيالاً جديدة بالاندفاع في الشغف والتمرس وتسلق السلم عن استحقاق. كان الصحافي الوافد إلى المؤسسة يجد نفسه أمام أساتذة كبار وأسماء لامعة، فيُشعره ذلك بالحاجة الملحة إلى القراءة والاستماع وإغناء الشغف بالمعارف. كانت المؤسسات جذابة، ولهذا يلقي الصحافيون بأعمارهم فيها ويتحمّلون شظف المهنة في المكاتب والميادين.
تذكرت وأنا أكتب عن الإعلام أنَّه في مثل هذا اليوم من العام 1978 ولدت «الشرق الأوسط» في لندن. اختارت أن تكونَ «صحيفة العرب الدولية». وأن تكونَ حاضرة في قارات عدة. وأن تحملَ العالم إلى قارئها العربي. وأن تنقلَ إلى العالم شؤون العالم العربي وشجونه. ومنذ ولادتها حرص ناشراها ومن تعاقب على رئاسة تحريرها على قيم لا يجوز التفريط فيها. قيم الاعتدال والانفتاح والمهنية واحترام عقل القارئ، والقبول به محاوراً وشريكاً ورقيباً. تحوَّلت «الشرق الأوسط» ذاكرةً للشرق الأوسط. كانت حاضرة في الانعطافات الكبرى التي عاشتها المنطقة وارتباطها باهتزازات العالم وتبدلاته. وكانت حاضرة في يوميات السياسة والاقتصاد والثقافة والفنون. أمانة في نقل الأخبار وشرفات يطل منها كتاب من ينابيع مختلفة، ما جعل «الشرق الأوسط» بيتاً لقرائها، يجدون فيه منبراً لهمومهم وأسئلتهم.
بين ولادة «الشرق الأوسط» واليوم فترة غنية وصاخبة من عمر المنطقة والعالم. أرشيف الصحيفة يذكر بثراء المناجم في هذه العقود المذهلة التي تغير فيها العالم أكثر من مرة، ودهمته ثورات علمية وتكنولوجية غيّرت حياة سكان الكوكب. في ذكرى تأسيسها تشعر «الشرق الأوسط» أنَّها تمتلك الإرادة والخبرة ونبض الشباب وحكمة التجربة. أربعينية تحاول بموقعها ومنصاتها وصفحاتها الذهابَ أبعدَ في التحول الرقمي ومواكبة عالم يتغير ومهنة تتغير. أربعينية واثقة ومبادرة وعنيدة تفتخر بماضيها، لكنَّها واثقة أيضاً أن «الآتي أفضل»، كما تشدّد جمانا الراشد الرئيس التنفيذي لـSRMG «المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام».
بين الصحافيين والمؤسسات التي يلقون فيها بأعمارهم روابط ودٍّ، كتلك التي تربطهم بمنازلهم. وبين «الشرق الأوسط» وقرائها روابط ثقة ومودة يضاعف الوقت رسوخها. والتحديات تصقل.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لا مبرر للبكاء على رائحة الحبر لا مبرر للبكاء على رائحة الحبر



GMT 23:27 2022 الجمعة ,07 تشرين الأول / أكتوبر

الصين والزعيم الأعلى الراسخ

GMT 10:02 2022 الجمعة ,01 تموز / يوليو

نموذج آية الله للعالم

GMT 10:36 2022 الخميس ,16 حزيران / يونيو

عن زمن الإنفلاش النووي

GMT 04:24 2022 الأحد ,13 شباط / فبراير

العنصر الصهيونيّ في الوعي الممانع

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 18:29 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي
المغرب اليوم - أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي

GMT 17:27 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
المغرب اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 13:12 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الحوت السبت 26-9-2020

GMT 13:22 2021 الأحد ,19 أيلول / سبتمبر

نادي شباب الريف الحسيمي يواجه شبح الانقراض

GMT 06:23 2023 السبت ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم السبت 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023

GMT 11:08 2023 الجمعة ,08 أيلول / سبتمبر

بلينكن يشيد بـ«الصمود الاستثنائي» للأوكرانيين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib