الوحش والخوف والقرارات الصعبة

الوحش والخوف والقرارات الصعبة

المغرب اليوم -

الوحش والخوف والقرارات الصعبة

بقلم - غسان شربل

في زمن «كورونا» الخوف هو المواطن الأول. الخوف على سلامتك وعلى سلامة القريبين منك والبعيدين أيضاً. الخوف من قاتل متسلسل لا يزال متكئاً على غموضه لتوسيع دائرة ضحاياه. خوف الدول على أمنها وموقعها بعدما اقتحم الزائر الوقح ثكنات الجيوش وسطوح الأساطيل وغرف المدمرات. الجيوش التي تخيف عادة وقعت هذه المرة في الخوف. ألغت مناورات وأوقفت تدريبات وأغلقت معاهد.
الخوف هو المواطن الأول. خافت الحكومات من انتشار الوباء كالنار في الهشيم فأمرت بالإغلاق والتباعد مقدمة سلامة الناس على كل ما عداها. ومع مرور الوقت راح الخبراء يحصون حجم الخسائر وتصدع الاقتصادات والشركات المهددة بالإفلاس والملايين المدفوعة إلى البطالة. راحت الحكومات تقلب الخيارات خائفة: في استمرار الإغلاق مغامرة بمصير الاقتصاد وفي فتح الاقتصاد مغامرة خصوصاً إذا هبَّت موجة ثانية من الوباء. إنه عالم الخوف والقرارات الصعبة.
الخوف حاضر أيضاً في التصورات المتداولة لعالم ما بعد «كورونا». ماذا عن التنافس الأميركي - الصيني؟ وماذا عن توزيع المقاعد في نادي الأقوياء في ضوء الأضرار التي ألحقها الوباء باقتصاد الدول المتنافسة؟ وماذا عن سلاسل التوريد وشرايين العولمة ودعوات الانغلاق والأصوات الشعبوية؟ الخوف الحاضر في الملفات الكبرى حاضر أيضاً في اليوميات.
إنها الثامنة مساء. الموعد الأسبوعي لتوجيه مشاعر التحية والتضامن إلى العاملين في القطاع الصحي. خرجت إلى مدخل المنزل فرأيت الجيران الذين تواروا منذ أسابيع يطلون تباعاً. حرص بعضهم على إشراك الأولاد لغرس روح التضامن في سلوكهم. وفي اللحظة المحددة ارتفع صوت التصفيق في الحي الهادئ، وارتأى البعض إشراك الطناجر لعلها تعطي زخماً لا توفره الأيدي.
وكانت الإطلالة فرصة لتبادل التحيات خصوصاً أن التجاور في مدينة مثل لندن لا يلزم المتجاورين عادة بالتعارف وتبادل الزيارات وبناء الحد الأدنى من العلاقات. وخالجني شعور أن الرغبة في تبادل التحيات وتكرارها إنما يرمي إلى الإيحاء بأننا نبحر معاً في القارب نفسه. والحقيقة هي أن الحي قبل الجائحة مجموعة جزر يتبادل أهلها تحيات المجاملة إذا التقت نظراتهم صدفة ومن دون بذل أي جهد للذهاب أبعد من ذلك. هذه المرة عبرت بعض النظرات عن الرغبة في التقدم خطوة إضافية في اتجاه الآخر رغم تعليمات التباعد.
ربما هي من ثمار أسابيع الحجر وما حملته من مشاعر الخوف بعدما تحول كل ساكن في كوكب الأرض خبيراً في شؤون «كورونا»، ومن دون وجود معلومات صلبة يمكن الركون إليها باستثناء التصاعد الوحشي لعدد ضحاياه. اختار جاري فتح حوار مختصر. قال إن العالم بأسره مدين للأطباء والممرضات والممرضين الذين ألقوا بأنفسهم في معركة بالغة الصعوبة. شدَّد على وجوب إعادة النظر في لائحة الأبطال التي تضم أساساً جنوداً استشهدوا على أرض الوطن أو خارجها. لاحظ أن الأطباء والممرضين الذين سقطوا في المعركة الحالية يجب أن يتقدموا على كل أنواع الأبطال، لأنهم لم يغامروا بأرواحهم من أجل إمبراطورية أو دولة أو آيديولوجية أو عرق، بل من أجل إنقاذ روح بشرية من دون التوقف أمام جنسية صاحبها أو دينه أو لون بشرته.
تذكرت قول بريطاني مُسن إن الجائحة الحالية هي حرب عالمية وأقسى من هذه التسمية. حرب عالمية لأن مسرحها متعدد القارات وأصاب من الدول أكثر مما استهدفت الحروب العالمية السابقة. وهي أقسى لأنه كان في استطاعة البريطاني مثلا الاختباء من القصف الألماني للندن بالاحتماء في مكان محصن أو طبقة أرضية. أما في هذه الحرب فلا الملاجئ تفيد ولا الهروب إلى الريف أو الجزر. والقاسم المشترك بين التصفيق وتعديل لائحة الأبطال وتسمية الحرب العالمية هو هذا الشعور العميق بالخوف أمام تجربة جديدة كلياً ومخيفة على نحو غير مسبوق.
دفعني الفضول إلى سؤال طبيب يشارك الآن في معركة «كورونا» رغم أن اختصاصه أصلاً ليس في هذا الميدان بالتحديد. سألته عن مناخات المستشفيات فقال: «لم نشاهد مثل هذا المناخ من قبل. طلبت المستشفى أن نشارك، وراودتني لوهلة رغبة في الاعتذار والابتعاد. خفت أن يلازمني شعور بالخيانة تجاه قسمي ومهنتي فانخرطت». وأضاف: «شيء رهيب وأكثر من رهيب. لقد طُلب من الأطباء وعناصر الجسم الطبي محاربة وحش مجهول لا يعرفون نقاط ضعفه، ولا يمتلكون الأسلحة الضرورية لمواجهة نقاط قوته. للوهلة الأولى بدت الحرب قاسية ويائسة لكن كان لا بد من خوضها. لا أبالغ إن قلت إن المستشفيات كانت في عهدة الذعر الكامل. خوف الأطباء على مرضاهم وخوفهم على سلامتهم الشخصية. أي إهمال يمكن أن يتحول قاتلاً. ثم انك تخوض معركة كبرى بلا دواء أو عقار، وعليك الاستمرار في محاربة القاتل الغامض بانتظار أن يطل خبر مفرح. وفي انتظاره سيموت كثيرون وسينجو كثيرون».
لاحظ أن معظم المستشفيات الأوروبية لم تكن مهيأة للانخراط سريعاً في مواجهة بهذه الحدة والاتساع، خصوصاً أن سياسات التقشف أو خفض الإنفاق في عدد من الدول قلّصت الإمكانات أو عدد الأسرة. دعا إلى عدم الوقوع في استنتاجات متسرعة من نوع أن الأنظمة الشمولية هي الأفضل لمواجهة الكوارث لأنها تستطيع اتخاذ قرارات سريعة وحاسمة من دون استشارة أحد. ولفت إلى أن أفضل أنواع المواجهة حصلت في ظل ديمقراطيات مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان.
خيط الخوف حاضر بقوة في يوميات المواطن وكذلك على طاولات الحكومات. حاضر في الحي وحاضر على الشاشات وفي المقالات. لن يتراجع الخوف قبل أن تعلن المختبرات أنها فضحت أسرار الوباء وأعدت سلاح تفاديه والقضاء عليه. ودائماً يحتاج العالم لتبديد مخاوفه إلى حكومات رشيدة قادرة على اتخاذ قرارات صعبة. حكومات تستخلص العبر وتعد مؤسساتها لمواجهة الكوارث المقبلة سواء كانت أوبئة أو تغيرات مناخية تتعلق بالاحتباس الحراري أو انخفاض المحاصيل وانتشار الجوع.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الوحش والخوف والقرارات الصعبة الوحش والخوف والقرارات الصعبة



GMT 15:33 2021 الأحد ,31 كانون الثاني / يناير

شعر عربي اخترته للقارئ

GMT 15:29 2021 الأحد ,31 كانون الثاني / يناير

شعر المتنبي - ٢

GMT 15:18 2021 الأحد ,31 كانون الثاني / يناير

من شعر المتنبي - ١

GMT 23:58 2021 الثلاثاء ,26 كانون الثاني / يناير

شعر جميل للمعري وأبو البراء الدمشقي وغيرهما

GMT 21:18 2021 الإثنين ,25 كانون الثاني / يناير

أقوال بين المزح والجد

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 00:54 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

روحي فتوح لتولّي رئاسة السلطة الفسطينية حال شغور المنصب
المغرب اليوم - روحي فتوح لتولّي رئاسة السلطة الفسطينية حال شغور المنصب

GMT 22:21 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يناقش إبعاد بعض وسائل الإعلام من البيت الأبيض مع نجله
المغرب اليوم - ترامب يناقش إبعاد بعض وسائل الإعلام من البيت الأبيض مع نجله

GMT 18:29 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي
المغرب اليوم - أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي

GMT 13:12 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الحوت السبت 26-9-2020

GMT 13:22 2021 الأحد ,19 أيلول / سبتمبر

نادي شباب الريف الحسيمي يواجه شبح الانقراض

GMT 06:23 2023 السبت ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم السبت 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib