تصفير لبنان

تصفير لبنان!

المغرب اليوم -

تصفير لبنان

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

أخبار أفغانستان تكسر القلب فعلاً وتهين كلّ ما هو إنسانيّ في إنساننا المعاصر. رغيف الخبز بالمعنى الحَرفيّ مفقود. كتل سكّانيّة تتدفّق على السفارات بحثاً عن وسيلة نجاة تُخرجها من بلدها. لكنْ قبل أربعة أشهر ونصف فقط كان يقال أنّ أفغانستان حقّقت نصراً مؤزّراً وأذلّت الأميركيّين الذين انسحبوا منها كالفئران.
الانتصار هذا يشبه النكتة التي ابتُذلت لكثرة استخدامها: العمليّة الجراحيّة نجحت لكنّ المريض، لسوء الحظّ، توفّي.
شيء كهذا مطلوب حدوثه في لبنان: السفراء الغربيّون والبعثات الدبلوماسيّة الغربيّة في بيروت غير مرغوب فيهم. القوّات الدوليّة في الجنوب غير مرغوب فيها كذلك. المنظّمات غير الحكوميّة غير مرغوب فيها في أيّ مكان من البلد. هؤلاء كلّهم موضوع للتنديد والتهديد اليوميّين.
القوى التي تريد تغييب هؤلاء جميعاً، وتعاملهم بالتهديد بعد التنديد، هي القوى التي تحمل للّبنانيّين الخيار الأفغانيّ أو ربّما الكوريّ الشماليّ: الغرب، في سائر أشكاله، ينبغي أن لا يقرب منّا. لماذا؟ لأنّ هذا شرط من شروط الانتصار بالمعنى الذي انتصر فيه الأفغان أو الذي يعيش في ظلّه الكوريّون الشماليّون.
بطبيعة الحال هم لا يسمّونه كذلك، لكنّه حَرفيّاً كذلك: إغلاق بلدنا عن معظم العالم العربيّ، ولكنْ أيضاً عن معظم العالم، لا سيّما منه الدول الغربيّة، وإطفاء كلّ ما يضيء فيه اقتصاداً وتعليماً ومثاقفةً وغير ذلك.
والحال أنّ الغرب الذي يُراد طرده لا يقتصر على ما هو سياسيّ. فالدولار، الذي نحتاجه في أزمتنا الاقتصاديّة الحاليّة حاجةَ الصحراء إلى المطر، سيكون أيضاً غير مرغوب فيه. ذاك أنّه من غير المُتخيّل أن يحضر الدولار في مكان يُمنع هؤلاء جميعاً من الحضور فيه.
وينسى الممانعون أنّ الغرب، في زمننا الراهن، يمتدّ من طرق معيّنة في المأكل والمظهر والملبس إلى التقنيّة في جميع أشكالها وإلى صناعة الصورة، أكان عبر السينما أم عبر الوسائط الكثيرة الأخرى. وهذه جميعاً، بالحساسيّات التي شذّبتها والمخيّلات التي صقلتها، لا يوجد ما ينافسها، لا في الصين ولا في روسيا، ولا – طبعاً – في إيران.
إنّ ما يُراد نقلنا إليه هو ردّنا إلى السويّة الأولى السابقة على احتكاكنا بالغرب وتعلّمنا منه، أي إلى النموذج المعزول والمتداعي الذي تقيمه أنظمة الحزب الواحد والرأي الواحد والجماعة الواحدة استفراداً منها بشعبها الضعيف. وهذا، في واقع الحال، ما قطعنا شوطاً معتبراً في الوصول إليه.
والحقّ أنّ أكثريّة اللبنانيّين، ربّما الساحقة، لا تريد هذا النموذج حتّى لو كان شرطاً لتحرير فلسطين كاملةً غير منقوصة. والأكثريّة هذه قد تكون طائفيّة، وقد تكون قياداتها فاسدة، إلاّ أنّها تختار لنفسها حياة حرّة، مفتوحة على العالم ومستقبِلة لتأثيراته. أمّا جرّها إلى هذه المقبرة باسم محاربة أميركا أو التصدّي لإسرائيل فلا يبقى منه سوى تصفير لبنان وإصدار حكم بالإعدام على طموحات أبنائه.
ولنقل إنّها المرّة الأولى التي يصطبغ فيها، وإلى هذا الحدّ، خلاف اللبنانيّين بوجهة نظر آيديولوجيّة تطال المعاني على نطاق العالم كلّه، من هنا إلى أوكرانيا وتايوان. فالخلاف اليوم إنّما يطال كلّ شيء تقريباً: العرب مقابل إيران. الغرب مقابل روسيا والصين فضلاً عن إيران. الحرّيّة مقابل الاستبداد، البحبوحة والازدهار مقابل المجاعة...
وعلى ضفّتي هذا الخلاف يقيم انتماءان لم يكونا مرّة على هذين الوضوح والانقشاع: فأكثريّة اللبنانيّين، التي قد تتنازع في ما بينها على أشياء كثيرة، تريد للسفارات الغربيّة أن تبقى في بلدها، وأن تشعر فيه بالأمن والطمأنينة، وتريد للقوّات الدوليّة أن تبقى في الجنوب حائلاً دون احتمالات حرب أخرى ترفضها هذه الأكثريّة، ولمعاهد التعليم الغربيّ أن تتوطّد وتعلّم أعداداً أكبر، وللمنظّمات غير الحكوميّة أن توفّر أحد المصادر التي باتت قليلة جدّاً لمداخيل اللبنانيّين، فضلاً عن دورها، مهما كان متواضعاً، في مشاريع تنمويّة صغرى وفي توسيع حرّيّات التعبير.
في المقابل، هناك النموذج الانعزاليّ الذي لا يعنيه من هذا كلّه إلاّ السياسة في أضيق معانيها – السياسة التي تقود، سواء انتصرت أم انهزمت، إلى الهلاك والعزلة والنضوب الذاتيّ.
وأمّا الدعوة إلى الدفاع عن النموذج الذي تتمسّك به أكثريّة اللبنانيّين فعادلة ومُحقّة، فضلاً عن كونها مُلحّة، وهذا كي لا يكتب لاحقاً واحدُنا ما كتبه الكاهن والشاعر الألمانيّ مارتن نايمولر:
«في البداية، جاؤوا وراء الاشتراكيّين، ولم أتكلّم، لأنّني لم أكن اشتراكيّاً
ثمّ جاؤوا وراء النقابيّين، ولم أتكلّم، لأنّني لم أكن نقابيّاً
ثمّ جاؤوا وراء اليهود، ولم أتكلّم، لأنّني لست يهوديّاً
ثمّ جاؤوا ورائي، ولم يكن قد بقي هناك من يدافع عنّي».

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تصفير لبنان تصفير لبنان



GMT 19:37 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

وانفقأ دُمّل إدلب

GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 07:50 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

ميركل تكشف السر وراء صورتها الشهيرة مع بوتين والكلب الأسود
المغرب اليوم - ميركل تكشف السر وراء صورتها الشهيرة مع بوتين والكلب الأسود

GMT 11:51 2019 الجمعة ,21 حزيران / يونيو

شهر حزيران تميمة حظ لمواليد برج السرطان

GMT 13:31 2017 الثلاثاء ,17 تشرين الأول / أكتوبر

السفير المغربي سمير الدهر يتعرض إلى السرقة في حي يسيشيكو

GMT 19:54 2017 الأربعاء ,25 كانون الثاني / يناير

والد حمزة منديل يرفض الرد على اتصالات نجله

GMT 02:43 2015 الإثنين ,14 أيلول / سبتمبر

حلى الزبادي بالأوريو

GMT 08:36 2017 الثلاثاء ,24 تشرين الأول / أكتوبر

شركة "تسلا" تبني مصنعًا لإنتاج السيارات الأجنبية في الصين

GMT 08:25 2024 الإثنين ,15 إبريل / نيسان

نتائج القسم الثاني لكرة القدم بالمغرب

GMT 07:21 2023 الإثنين ,18 كانون الأول / ديسمبر

أبرز النجمات اللواتي ارتدين البدلة الرسمية هذا العام
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib