الصاروخ ضدّ الرغيف

الصاروخ ضدّ الرغيف...

المغرب اليوم -

الصاروخ ضدّ الرغيف

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

فيما كان الزمن ينتقل بنا من عام إلى عام، تحدّث كيم جونغ أون ففهمَ كثيرون أنّه قد ينتقل بلده من أولويّة الصاروخ إلى أولويّة الرغيف. الزعيم الكوريّ الشماليّ، مختتماً سنته العاشرة في السلطة، قال إنّ هدف بلاده للسنة الجديدة إطلاقُ التنمية الاقتصاديّة وتحسين حياة الناس، لأنّ كوريا الشماليّة تواجه «صراعاً كبيراً بين الحياة والموت».
هذا ما قاله هو بلسانه ولم ينسبه إليه إعلام كوريا الجنوبيّة المتّهم بـ«تلفيق الأخبار» عن الجارة الشماليّة.
البعض ربّما فهموا من كلام كيم أكثر ممّا قصد، لكنْ يبقى أنّه، وعلى عكس عادته، لم يلوّح بالصواريخ هذه المرّة ولا وجّه «رسائل ناريّة» إلى الولايات المتّحدة وكوريا الجنوبيّة. ويبدو أنّ الأوضاع في بلده، في ظلّ قيادته، لم تعد تحتمل هذا الترف. ذاك أنّ العزلة التي مرّ عليها عامان، بسبب جائحة كورونا وإغلاق الحدود مع الصين، مصدر كلّ شيء تقريباً، جعلت السيّئ أسوأ. لقد ذكّرت العالم بما شهدته التسعينات الكوريّة إثر انهيار الاتّحاد السوفياتيّ وتوقّف معوناته. حينذاك حلّت مجاعة أودت بمئات الآلاف، وثمّة من قدّر ضحاياها بثلاثة ملايين من أصل 25 مليوناً. «آذار الشاقّ»، الذي سُمّيت به تلك الكارثة، حمل كيم على مصارحة شعبه للمرّة الأولى بوجود «نقص في الغذاء» وبأنّ الخطّة الزراعيّة المعتمدة خذلت الشعب وخالفت توقّعات القيادة. لكنْ، وللتخفيف من وطأة المصارحة، راحت تتكاثر الأخبار الصادرة عن بيونغ يانغ والتي تقول إنّ العالم كلّه على شفير الانهيار، وبالطبع فمعرفة الكوريّين الشماليّين بما يجري في العالم الخارجيّ مهمّة تكاد تكون مستحيلة.
والحال أنّه بات في وسعنا أن نتحدّث، بعد تجارب كوبا وفنزويلّا وإيران وتجربة لبنان منذ عامين، عن معادلة شاملة تضع الصاروخ، أو النزعة الحربيّة عموماً، في مقابل الرغيف: إمّا هذا أو ذاك. أمّا ردّ التمسّك بالصاروخ على حساب الرغيف إلى الكرامة فمنطق لا يردّده بعد اليوم إلاّ اثنان: الخبيث المستفيد من صنع الصاروخ (ومن احتكار الرغيف) والساذج الذي يخدّر جوعه بالكلام المنفوخ عن الصاروخ والكرامة. فلا كرامة، في آخر المطاف، للذين يُحرمون من الحرّيّة ومن الخبز في وقت واحد. ولا يعقل، بعد كلّ حساب، أن تكون كوريا الجنوبيّة التي أنقذت كوريا الشماليّة من المجاعة، عديمةَ الكرامة، فيما الأخيرة تنضح كرامةً وتفيض.
إنّ الكرامة هنا هي الاسم المستعار لحكم طغمة مستبدّة تدوس السكّان وتُفقرهم باسم عدوّ خارجيّ غالباً ما يُراد لعداوته أن تكون أبديّة لا علاج لها. حتّى تذرّعُ الطُغَم الحاكمة بالدفاع عن أفكار أو قيم يتبدّى تذرّعاً مزغولاً: فلا إيران تقاتل في سبيل الله، ولا سوريّا تقاتل في سبيل مبادئ حزب البعث. أمّا كوريا الشماليّة نفسها فأزالت، منذ 2009، في أواخر أيّام الأب كيم جونغ إيل، كلّ إشارة إلى الماركسيّة - اللينينيّة والشيوعيّة من دستورها.
طبعاً هناك من رأى أنّ الصاروخ هو الطريق إلى رغيف الخبز، إذ إنّ مكافحة المستعمر وإجلاءه شرط شارط للتنمية والمستقبل الأفضل. وطبعاً، وكما يقول الشعر، فإنّ «اليد المضرّجة» هي ما يفتح باب الحرّيّة. لكنْ إذا صحّ هذا التقدير في عهد مكافحة الاستعمار فما الذي يسوّغه اليوم بعد عشرات السنوات على الاستقلالات؟
تجربة فيتنام تجيب ببلاغة عن هذا السؤال: حين كان القتال دائراً مع الأميركيّين وأهل الجنوب وُصفت فيتنام بأنّها ملحمة العصر. لكنْ فجأة، وبعدما وضعت الصاروخ جانباً واهتمّت بالرغيف، لم يعد أحد من أولئك المدّاحين القدامى يأتي على ذكرها. إنّ تجربتها في النموّ الاقتصاديّ جيّدة، وعلاقاتها جيّدة مع الأميركيّين والأوروبيّين. إذاً يُستحسن نسيان فيتنام كما لو أنّها لم توجد. الصين كانت لتلاقي التجاهل نفسه لو لم تكن ماضية في مناطحة الأميركيّين.
لهذا يجوز الظنّ أنّ المطلوب، بعيداً من كلّ البهرجات الآيديولوجيّة، إدامة الحالة الحربيّة: «خلّ السلاح صاحي» بحسب ما تقول الأغنية. وفي ظلّ عجز الوعي المتمحور حول الصاروخ عن إحداث أيّ إنجاز في أيّ حقل ما عدا القتال يزداد هذا التمحور ويتعاظم، كذلك يزداد الرفض لكلّ التفاف على الحالة الحربيّة، أكان ذلك بالاقتصاد والمشاريع أو بالثقافة والفنون. هذا كلّه تطبيع يهدّد بتغليب الرغيف على الصاروخ وبإحلال السلم حيث تحلّ الحروب والمنازعات.
لكنْ لنلاحظ اليوم، رغم كلّ الشقاء الذي يقيم في عالمنا المعاصر، أنّ الوعي المتمحور حول الصاروخ صار عتيقاً جدّاً، وهو يزداد عتقاً يوماً بيوم. صحيح أنّه قد يشعل حروباً، وهو قادر على ذلك، إلاّ أنّ موهبته الوحيدة هذه لا تستطيع أن تمنع نخرَه البطيء عبر تعرّضه لأفكار جديدة حول الاستبداد والأبويّة والعنصريّة وأوضاع النساء، وطبعاً كراهية الحروب، وحول التلازم بين هذه القيم والازدهار والبحبوحة. هذه الأفكار «تتسلّل» من خلال التلفزيون والسينما ووسائل التواصل والإعلام البديل وما يتيسّر من سفر أو سياحة أو معرفة بأحوال العالم...، وقبل كلّ شيء من خلال واقع البلدان المعنيّة ذاتها. إنّها لا تكتفي بعزل أصحاب الوعي المتمحور حول الصاروخ، بل تسرق منهم، وبإيقاع يوميّ، أبناءهم الذين بدأوا يمجّون ترّهات أولئك الآباء.
هكذا يغدو الرهان ممكناً على تصدّع القلعة المغلقة في كوريا الشماليّة، وما يقلّدها ويشبهها من قلاع، إن لم يكن في الغد ففي ما بعد الغد، والصاروخ لا يستطيع، إلى ما لا نهاية، أن ينتصر على الرغيف.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الصاروخ ضدّ الرغيف الصاروخ ضدّ الرغيف



GMT 19:37 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

وانفقأ دُمّل إدلب

GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 08:27 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة
المغرب اليوم - نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة

GMT 08:50 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

الكشف عن قائمة "بي بي سي" لأفضل 100 امرأة لعام 2024
المغرب اليوم - الكشف عن قائمة

GMT 16:38 2016 الجمعة ,23 كانون الأول / ديسمبر

إضافة 408 هكتارات من الحدائق والمساحات الخضراء في بكين

GMT 10:48 2019 السبت ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

جنون الريمونتادا

GMT 12:35 2019 الثلاثاء ,16 إبريل / نيسان

امرأة تعقد عقد جلسة خمرية داخل منزلها في المنستير

GMT 04:14 2019 الخميس ,31 كانون الثاني / يناير

ارتفاع سعر الدرهم المغربي مقابل الريال السعودي الخميس

GMT 10:06 2019 الثلاثاء ,29 كانون الثاني / يناير

الطاعون يلتهم آلاف المواشي في الجزائر وينتشر في 28 ولاية

GMT 03:21 2019 الجمعة ,25 كانون الثاني / يناير

إعادة افتتاح مقبرة توت عنخ آمون في وادي الملوك

GMT 10:21 2019 السبت ,12 كانون الثاني / يناير

فضيحة جنسية وراء انفصال جيف بيزوس عن زوجته

GMT 09:04 2018 الأربعاء ,12 كانون الأول / ديسمبر

والدة "راقي بركان" تنفي علمها بممارسة نجلها للرقية الشرعية

GMT 05:06 2018 الإثنين ,10 كانون الأول / ديسمبر

جمهور "الجيش الملكي" يُهاجم مُدرّب الحراس مصطفى الشاذلي

GMT 06:44 2018 الخميس ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

"Il Falconiere" أحد أجمل وأفضل الفنادق في توسكانا

GMT 00:44 2018 الخميس ,25 تشرين الأول / أكتوبر

اكتشف قائمة أفخم الفنادق في جزيرة ميكونوس اليونانية

GMT 15:10 2018 الإثنين ,13 آب / أغسطس

شركة دودج تختبر محرك سيارتها تشالنجر 2019

GMT 19:15 2018 الأربعاء ,01 آب / أغسطس

يوسف النصري علي ردار فريق "ليغانيس" الإسباني
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib