الاستثمار السياسي في الأرصدة السلبيّة

الاستثمار السياسي في الأرصدة السلبيّة

المغرب اليوم -

الاستثمار السياسي في الأرصدة السلبيّة

آمال موسى
آمال موسى

هناك مشكلٌ حقيقي في فهم جوهر الفعل السياسي في مجتمعاتنا. لا شكَّ في أنَّ تأخرَ التنمية السياسية قد أسهم في ارتباك استيعاب مقومات العمل السياسي وأهدافه وآلياته، ولكن نلاحظ في الوقت نفسه شيوع أفكار خاطئة متداولة في كيفية ممارسة السياسة.

فلا اكتراث بشيء اسمه المشروع والرؤية والبرنامج والحلول، والحال أنَّ ممارسة السياسة تقتضي وجوباً تقديمَ الحلول القادرة على إشباع توقعات الشعب وتحقيق التنمية والتقدم. تهيمن في بلداننا وصفة خاصة وتكاد تكون فريدة من نوعها، من ناحية رؤية النخب السياسية الطامحة لممارسة السلطة والوصول للحكم للسياسة.

هذه الرؤية تتمثل في توظيف الرصيد السلبي للخصم السياسي الحاكم أو المهيمن على الحكم وتخصيص كل الجهد في إظهار سلبيات الخصم السياسي وأخطائه، والتشهير واستعمال صيغ المبالغة والمزايدات قصد تهرئته سياسيا وإرباكه. وهنا الاتكال الرئيسي يكون على ضعف الخصم وما يمتلكه من رصيد سلبي. والنتيجة مع الوقت وتراكم الرصيد السلبي تكون السقوط تحت الضغوط الموضوعية وغيرها. ويذهب في ذهن الطرف المضاد أنَّ الرصيد السلبي لحزب بيده الحكم والسلطة يصبُّ في صالحه ويضمن له آليّاً رصيداً إيجابيّاً. هذه الخاصية هي موطن عطب عميق في تمثل السياسة في كثير من بلداننا الشيء الذي يؤدي إلى إعادة إنتاج الأرصدة السلبية، ولكن بلون آخر وخيارات أخرى. كما أنَّ ممارسة السياسة على هذا النحو لا تخلو من تشويش ومن إسهام حقيقي في إفشال الخصم السياسي الحاكم، فالمعارضة السياسية هي فعل مراقبة للنخبة الحاكمة ودفاع متواصل عن بدائلها في مشروع التغيير الاجتماعي والتنمية والرفاه الاجتماعي، وليست هوساً بالرصيد السلبي للخصم ومحاربة له من أجل ألا ينجح وإظهاره فاشلاً.

الإشكال الكبير في هذه العقلية السياسية أنَّها تؤذي الوطن وتسهم في تراجعه، وتهدر وقت الأجيال الصاعدة وأحلامها. فأي تصارع مع الخصم الآيديولوجي السياسي خارج صناديق الاقتراع هو أذى للاقتصاد والمجتمع، وحرمانه من أهم شروط العمل والتطور وهو شرط الاستقرار السياسي.

المفروض بعد أنْ تبوحَ صناديق الاقتراع بإرادة الناخبين أن يمضي كل حزب سياسي إلى الموقع الذي حدَّده له الناخبون، سواء الحكم أو المعارضة. الواضح أنَّ تغلغل شروط الممارسة الديمقراطية تحتاج إلى تراكم التجربة، لذلك نرى سلوكيات تقوم بها تنظيمات سياسية معترف بها وطرف في الحقل السياسي وخاضت الانتخابات، فيها نوع من الأسلوب المناور للديمقراطية، وتحديداً شروطها وهي سلوكيات لا تعطل مسار الديمقراطية فحسب، بل إنّها تخلق مناخاً سلبياً وتسهم في إنتاج أسباب الفشل مما يؤثر سلباً على الوطن ككل بما فيه الخصوم المستثمرة في الرصيد السلبي.

فبين المراقبة ومحاولة تدمير مساعي النخبة الحاكمة شعرة لا ترى بالعين المجردة. وبين المعارضة والإطاحة بمن يحكم شعرة واحدة أيضاً.

هناك مخاض في علاقتنا بالديمقراطية: نريدها ونرفض نتائجها التي لا تناسبنا ولا تتفق مع ميولاتنا الآيديولوجية، وهذا خطأ عميق في التعامل مع الديمقراطية. ومن محاسن الديمقراطية السياسية أنَّها تسمح بدوران النخب: المقصود بالدوران في هذا السياق دوران البرامج والأفكار ورؤى التغيير الاجتماعي ومشاريع التنمية وتصورات تحقيق تنمية الإنسان الشاملة والتقدم وتوسيع خيارات الناس.

ولكن في الواقع ما يغلب على فكرة الدوران هذه في الفضاء السياسي العربي هو دوران الأرصدة السلبية. وهو دوران ثابت في الدائرة نفسها.

مثلاً في تونس التي تعرف في العشرية الأخيرة انطلاق تجربة ديمقراطية في السياسة نلاحظ أنَّ ظاهرة الاستثمار السياسي في الرصيد السلبي للنخبة الحاكمة، ظلَّت هي نفسها من السبعينات من القرن الماضي إلى اليوم. فالمعارضة الإسلامية آنذاك اشتغلت على إظهار المغالاة في التحديث في المشروع البورقيبي، وشككت في الإصلاحات التي قام بها جميعاً بدءاً من إصدار مجلة الأحوال الشخصية، وصولا إلى الخيارات الاقتصادية وأهمها تجربة التعاضد التي تم استغلالها في استثمار ضحايا هذه التجربة في المجتمع واستقطابهم. وكذلك فعل اليسار والقوميين في تونس، ركزوا كل الجهد على الرصيد السلبي لبورقيبة دون أن يُعرفوا بأنفسهم شعبياً جيداً ولم يطرحوا على الشعب بدائلهم فظلوا مجهولين شعبياً، ولم يكن لهم نصيب يضاهي نضالاتهم عندما حدثت الثورة، وأصبح صندوق الاقتراع صاحب الكلمة فيمن يحكم وفيمن يعارض.

والحال أن الضربة الحقيقية لأي خصم تتمثل في إظهار أنك تملك الحلول القادرة على إشباع توقعات الشعب، والتخفيض من نسب الفقر والبطالة، ومصالحة الشباب التائه اليائس، مع الأمل في تعزيز حاجته للإنجاز والحلم.

هكذا تدار النخب بتقديم الحلول لا بالتركيز المطلق والكامل على الرصيد السلبي. الذكاء السياسي يقتضي في لحظات فشل الآخرين أن نظهر قدرتنا على صنع النجاح، وخلق مناخ إيجابي يعترف بالجميع. فالرصيد السلبي مفلس والاستثمار فيه إفلاس مؤجل أيضاً.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الاستثمار السياسي في الأرصدة السلبيّة الاستثمار السياسي في الأرصدة السلبيّة



GMT 19:37 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

وانفقأ دُمّل إدلب

GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 11:51 2019 الجمعة ,21 حزيران / يونيو

شهر حزيران تميمة حظ لمواليد برج السرطان

GMT 13:31 2017 الثلاثاء ,17 تشرين الأول / أكتوبر

السفير المغربي سمير الدهر يتعرض إلى السرقة في حي يسيشيكو

GMT 19:54 2017 الأربعاء ,25 كانون الثاني / يناير

والد حمزة منديل يرفض الرد على اتصالات نجله

GMT 02:43 2015 الإثنين ,14 أيلول / سبتمبر

حلى الزبادي بالأوريو

GMT 08:36 2017 الثلاثاء ,24 تشرين الأول / أكتوبر

شركة "تسلا" تبني مصنعًا لإنتاج السيارات الأجنبية في الصين

GMT 08:25 2024 الإثنين ,15 إبريل / نيسان

نتائج القسم الثاني لكرة القدم بالمغرب
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib