إليزابيث الثانية رحيل الكبار

إليزابيث الثانية... رحيل الكبار

المغرب اليوم -

إليزابيث الثانية رحيل الكبار

عبدالله بن بجاد العتيبي
بقلم : عبدالله بن بجاد العتيبي

 

رحلت بسلامٍ محاطة بعائلتها، هذا هو التعبير البريطاني عن الرحيل الأخير للملكة إليزابيث الثانية، التي سجَّل التاريخ باسمها أرقاماً قياسية غير مسبوقة، وربما لن تكون ملحوقة في المستقبل القريب؛ في عمرها المديد، وفي مدة توليها العرش، ضمن سلسلة من الأرقام التاريخية التي أحاطت بحياتها ومسيرتها الطويلة.
أكثر سكّان الأرض وُلدوا وكبروا وهم لا يعرفون لبريطانيا ملكاً إلا إليزابيث الثانية، ولأنها ملكة تملك ولا تحكم؛ فقد حظيت باحترام وتقدير الكثير من الشعوب حول العالم، وتأثرت لفقدها أمم وشعوبٌ وأجيالٌ عرفتها مع وسائل الإعلام التقليدية، أو مع وسائل التواصل الاجتماعي المعاصرة.
الإرث الاستعماري البريطاني ذاكرته سيئة لدى كثير من شعوب العالم، التي خضعت يوماً للإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وهذا شأن السياسة البريطانية التي تديرها الحكومات والأحزاب، وليس شأن العرش الملكي، ولذلك فشخصية مثل «تشرشل»، على سبيل المثال، لها محبون وكارهون كثر، بعكس الملكة، لأن تشرشل كان يحكم، ويتخذ القرارات، ويدير السياسات والعلاقات، وهو دخل الحرب العالمية الثانية، وخرج منتصراً، وله في مستعمرات بريطانيا القديمة خصوماتٌ وأعداءٌ يستحضرون تاريخه بشيء من القسوة التي خلَّفت ألماً.
بريطانيا لم تشهد ثورة مقارنة بفرنسا وأميركا وروسيا، بل شهدت تطوراً تدريجياً حكيماً، رغم بعض المحطات القصيرة التي كانت شديدة وعنيفة، وفي عهد الملكة إليزابيث الثانية الطويل شهدت بريطانيا استقراراً ممتداً وتاريخ بريطانيا - كغيره - مليء بالتفاصيل والتعقيدات والتشابكات السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية، وهو يناسب بريطانيا وطبيعتها وتطورها، ولكنّه ليس نموذجاً ثابتاً لأي أمة أو دولة أخرى.
الدعوى العريضة المنتشرة بقوة في الغرب وبعض دول العالم بأن الديمقراطية كنموذج حكمٍ هي «نهاية التاريخ»، لا تثبت لأي جدلٍ علميٍ، ونموذج الديمقراطية في الحكم يشهد تبايناتٍ كبرى، فبريطانيا ديمقراطية، وإيران ديمقراطية، في الأشكال والمؤسسات والصورة العامة، وهي مقارنة تثير السخرية، ولكنها صادقة من حيث الشكل، وحول العالم نماذج أخرى مختلفة في الحكم، ولكل أمة وشعبٍ سياق حضاري يجب أن تتطور من خلاله، لأن نماذج استيراد النموذج الغربي أثبتت فشلاً ذريعاً في بعض الدول، ويكفي أن يرصد المتابع ما جرى ويجري في العراق ولبنان أو أفغانستان سابقاً، ليعرف حجم الدمار الذي يخلقه الاستيراد الأعمى لنماذج حكمٍ تنتمي لسياقٍ حضاري مختلفٍ تماماً.
بعيداً عن الضغوطات الغربية متعددة الأشكال في هذا الإطار، فقد تحدث ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بوضوحٍ وشفافية عن هذه النقطة تحديداً، وأنه ليس لدينا ما نخجل منه، وقال في حواره مع مجلة «ذا أتلانتك»، مارس (آذار) 2022: «دولتنا قائمة على الإسلام، وعلى الثقافة القبلية، وثقافة المنطقة، وثقافة البلدة، والثقافة العربية، والثقافة السعودية، وعلى معتقداتها، وهذه هي روحنا، وإذا تخلصنا منها، فإن هذا الأمر يعني أن البلد سينهار». وأضاف: «السعودية دولة ملكية، أُقيمت وتأسست على هذا النموذج، ولقد أخبرتكم أنه تحت هذه الملكية، هناك نظام معقَّد يتكون من أنظمة قبلية من شيوخ قبائل ورؤساء مراكز وهجر، وقد كنت أريد أن أوضح لكم مثالاً لكيف تبدو الملكية في السعودية»، وقال أيضاً: «لا أستطيع تغيير السعودية من ملكية إلى نظام مختلف، وذلك لأن الأمر مرتبط بملكية قائمة منذ ثلاثمائة سنة، وقد عاشت هذه الأنظمة القبلية والحضرية التي يصل عددها إلى 1000 بهذا الأسلوب طيلة السنوات الماضية، وكانوا جزءاً من استمرار السعودية دولة ملكية».
وفي هذا السياق نفسه، تحدث أنور قرقاش المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات، في محاضرة له، في أبريل (نيسان) الماضي، عن «محاولة من قبل العديد من السياسيين الغربيين لتأطير عالمنا المعاصر آيديولوجياً، باعتباره ثنائياً ومنقسماً بين أنظمة ديمقراطية وأخرى استبدادية، وأن هذه المقاربة مرفوضة وغير مقبولة، وتمثل جزءاً من الدعاية الغربية»، معتبراً أن «التنوع الكبير في عالمنا والتجارب التاريخية المتباينة ترفض هذا المنطق، فما يصلح لدولة ما، ليس بالضرورة أن يصلح لدولة أخرى؛ فلكل دولة أطرها وثقافتها وإمكانياتها وقدراتها بحيث تبني نموذجها بناء على واقعها، بعيداً عن الاستنساخ الذي أثبت أن ضرره أكثر بكثير من نفعه».
للملكة إليزابيث الثانية تاريخٌ طويلٌ مع دول الخليج العربي وقياداتها، وعند وفاتها استحضرت وسائل الإعلام ووسائل التواصل العديد من صورها ومقاطع الفيديو الخاصة بها، خلال زياراتها لدول الخليج، أو خلال استقبالها للقيادات الخليجية في بريطانيا، والأمر ذاته مع ملك بريطانيا، تشارلز الثالث، الذي تلقى التعازي من كل دول مجلس التعاون الخليجي.
يقدّم العرش البريطاني نموذجاً للملكيات في العالم، بما يعبر عنه من مظاهر الثراء في القصور والحفلات والبروتوكولات الصارمة، وهو مما كانت تحرص عليه إليزابيث الثانية، وبعيداً عن دعايات اليسار، فقد أحبّ الناس رؤية التقاليد العريقة، والفخامة الملكية، والمناسبات الملكية البريطانية، فرحاً أو ترحاً، يتابعها الملايين، ويسافر البعض لمشاهدتها من شتى أنحاء العالم.
في مثل هذه المناسبة التاريخية التي يتابعها الكثيرون حول العالم، بدت لهجة اليسار بكل أطيافه خافتة أمام هذا التعاطف والاحترام الذي تحظى به الملكة الراحلة، واليسار الليبرالي الغربي تحديداً الذي يمارس «ديكتاتورية» على المجتمعات والشعوب والدول بشذوذات فكرية وسياسية وأخلاقية، ويستخدم الثقافة والإعلام والفنون، لذلك كله يستحسن الهدوء وعدم التطاول في مثل هذه اللحظة التاريخية.
من المعروف مدى التزام وصرامة الملكة إليزابيث الثانية بالبروتوكولات الملكية، وإلزامها أفراد عائلتها بها، ولكنها مع ذلك استطاعت أن تتطوّر مع تطوّر بلدها والعالم على فتراتٍ متعددة، وهو ما كان محلّ إشادة من ابنها ووريثها على العرش تشارلز الثالث، في كلمته الأولى التي نقلتها وسائل الإعلام بعد وفاتها، ما يشير إلى أنه سيستمر في هذا التوازن بين الالتزام والتطوير أثناء عهده.
أخيراً، فعلى مدى الأيام المقبلة سيتابع العالم طقوس جنازة الملك إليزابيث الثانية ومراسم العزاء والدفن، بحسب البروتوكول الملكي البريطاني، ويمكن مقارنة ذلك بطقوس ومراسم العزاء والدفن في دول الخليج العربي، كشاهدٍ على اختلاف السياقات الحضارية، حيث تتسم طقوس الخليج بالبساطة والعملية والبعد عن المظاهر، وهو أمرٌ لها نظائر متعددة لدى مختلف الشعوب والثقافات.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

إليزابيث الثانية رحيل الكبار إليزابيث الثانية رحيل الكبار



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ المغرب اليوم
المغرب اليوم - المغرب يفقد 12 مركزاً في تصنيف مؤشر تنمية السياحة والسفر لعام 2024

GMT 08:59 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته
المغرب اليوم - أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته

GMT 15:34 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

سعد لمجرد يكشف عن عمل جديد مع الفنانة إيلي أفرام
المغرب اليوم - سعد لمجرد يكشف عن عمل جديد مع الفنانة إيلي أفرام

GMT 02:13 2018 الأربعاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

تمثال لدبين قطبيين يُثير ذهول عملاء مركز تسوق

GMT 07:35 2016 الأحد ,18 كانون الأول / ديسمبر

أفضل مناطق لسياحة التزلج على الجليد في أوروبا

GMT 14:22 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

زلزال بقوة 3.2 درجة تضرب ولاية "مانيبور" الهندية

GMT 19:58 2020 الخميس ,09 كانون الثاني / يناير

أسماك القرش تنهش جثة لاعب كرة قدم في أستراليا

GMT 18:31 2019 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

تشابي ألونسو يؤكد جوارديولا سبب رحيلي عن ريال مدريد

GMT 21:58 2019 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

لطيفة رأفت تلهب مواقع التواصل الاجتماعي بمظهر جذاب

GMT 19:58 2019 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

دراسة تكشف عن قدرات النمل في علاج نفسه والنباتات

GMT 16:57 2019 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

تأجيل مباراة الرجاء البيضاوي ورجاء بني ملال

GMT 13:23 2019 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

لعبة SPIDER-MAN الأكثر مبيعا داخل اليابان في سبتمبر

GMT 15:35 2019 الأربعاء ,27 آذار/ مارس

وفاة شخص في حادثة سير خطيرة وسط الدار البيضاء
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib