أميركا الحضارة وأميركا السياسة

أميركا الحضارة وأميركا السياسة

المغرب اليوم -

أميركا الحضارة وأميركا السياسة

عبدالله بن بجاد العتيبي
بقلم : عبدالله بن بجاد العتيبي

أميركا هي الإمبراطورية الأقوى في التاريخ البشري، وهي بحكم قوتها حاضرة في كل العالم، أمماً وحكوماتٍ، شعوباً ودولاً، والقوة متعددة الجوانب والمظاهر، وليست عسكريةً فحسب، وقوة أميركا الأكبر هي في مكانتها الحضارية الطاغية في جميع المجالات التي تهم البشر، وتحديداً في قيادة البشرية في مجالات العلم، والمعرفة والاختراعات والابتكارات.
النموذج الحضاري الأميركي مبهرٌ، علمياً وإنسانياً، والهجوم عليها كان قاسياً إبان الحرب العالمية الباردة، وهو هجومٌ آيديولوجيٌ شيوعيٌ يساريٌ شامل، واليسار مؤثرٌ في حضوره النظري وبنيته الفكرية القوية، وإن كانت نماذجه متعددة ومختلفة وتجلياته على أرض الواقع متباينة، سواء في السلطة أو المعارضة حول العالم.
بحكم بنيته الآيديولوجية الصارمة، فإن نماذج اليسار في الحكم كانت جميعاً نماذج ديكتاتورية شمولية ساحقة، ولهذا سقطت في «الاتحاد السوفياتي» معقلها الأكبر وتهذبت في «الصين»، وتطوّر خطاب اليسار في غيرهما فتشكلت نماذج تحكمت في تبايناتها واختلافاتها المعطيات الواقعية والفكرية في كل منها، واليسار الليبرالي الأميركي هو أكثر هذه النماذج إثارة للجدل بعدما أصبح مؤثراً في دوائر صنع القرار الأميركي، وبالذات في فترتي حكم الرئيسين الأسبق باراك أوباما والحالي جو بايدن، ومن قبل ومن بعد في قيادة وقاعدة الحزب الديمقراطي، ناهيك بالحضور القوي في كل أنواع الفنون وصناعة الدراما وفي الجامعات والأكاديميات العريقة وكذلك في وسائل الإعلام بأنواعها وأشكالها.
بحكم الخلفية اليسارية لهذا التيار الأميركي، فمن الطبيعي أنه لا يكنّ مودةً للأنظمة العربية، والأنظمة الملكية منها تحديداً، بينما لا يجد غضاضةً في التعامل مع الأنظمة الثيوقراطية الديكتاتورية مثل «النظام الإيراني»، وهو من صنع «الاتفاق النووي» معه، وهو من يستميت اليوم لاستعادة ذلك الاتفاق وإيران تتمنع عليه، ولا تبدي حماسة للمضي قدماً في المفاوضات مع كل توسلاته المخجلة.
«المكارثية» مصطلحٌ يعبر عن نوعٍ من «الغوغائية» والاتهامات التي تطلق جزافاً، وهي سميت بذلك نسبة للسيناتور الأميركي جوزيف مكارثي الذي أطلق حملةً واسعةً ضد الشيوعيين واليسار في أميركا مطلع الخمسينات، ثم اتضح أن غالبية من اتهمهم لم يكونوا كذلك، والمهم هنا أن أحداً لم يجادل مكارثي في وجودهم، ولكنهم استنكروا أن يكونوا قد تغلغلوا في الإدارات الرئاسية والجيش والمؤسسات الرسمية أو أنهم كانوا عملاء للاتحاد السوفياتي.

بيرني ساندرز السيناتور الأميركي الشهير هو امتداد لذلك التيار اليساري الأميركي، وهو زار موسكو وكان هواه اشتراكياً واضحاً، وفشلت محاولاته في إنكار ماضيه وإعادة إنتاج نفسه في إلغاء ذلك الماضي، وقد أثبتت الوثائق التي نشرتها «نيويورك تايمز» 2020 علاقاته بالاتحاد السوفياتي، وساندرز هذا ليس مواطناً عادياً ولا سيناتوراً هامشياً، بل لقد حلّ ثانياً في انتخابات الحزب الديمقراطي للرئاسة الأميركية مرتين: خلف هيلاري كلينتون في 2016 وخلف بايدن في 2020، ما يعني بوضوح تصاعد حضور هذا التيار في أميركا.
حركات الإسلام السياسي تأثرت بالخطاب اليساري فكرياً وتنظيمياً، والعلاقات بين الطرفين طويلةٌ ومتشعبةٌ، وشواهدها كثيرةٌ، ونماذجها متعددةٌ، وليس هنا مجال سردها والتوسع فيها، ولكن المهم اليوم هو أن «اليسار الليبرالي» الأميركي قدّم رؤيةً متماسكةً للمنطقة وسعى لتطبيقها عملياً إبان ما كان يعرف بـ«الربيع العربي» 2011، وتقوم هذه الرؤية على فكرة دعم إسقاط الأنظمة العربية وتمكين جماعات الإسلام السياسي وعلى رأسها جماعة «الإخوان المسلمين» من الوصول إلى السلطة وحكم الدول العربية، وقد رأت الشعوب العربية النتائج الكارثية المرعبة لذلك التوافق والتعاون الاستراتيجي بين التيارين على أرض الواقع.
لا يخفي هذا التيار مواقفه تجاه السعودية قبل وصوله إلى السلطة، وهي مواقف لم تكن وديةً بأي حالٍ، وعلى الرغم من ذلك، فإن السعودية الجديدة أثبتت للعالم كله أنها حليفٌ لأميركا، ولكنها ليست بأي حالٍ من الأحوال تابعةً لها، وأنها تمتلك من عناصر القوة ما تروّض به جموح بعض التيارات والرموز السياسية الغربية، ويكفي قراءة القرارات الأخيرة لوزارة الخارجية الأميركية و«البنتاغون» لإظهار نتائج التعامل السياسي المحكم الذي تقوده السعودية في المنطقة.
بعض العرب وأتباع إيران في المنطقة يكذبون الكذبة ثم يصدقونها، وبعد أزمة لبنان الأخيرة والمقاطعة الخليجية الآخذة في التصاعد تدريجياً، والتي تتحوّل شيئاً فشيئاً لتيارٍ شعبيٍ عامٍ، صرّح وزير الخارجية اللبناني بأنهم يتحدثون مع الأميركان لوساطة مع السعودية، وهو توجه يوضح ضحالة الفكر السياسي القائم على الجهل والأكاذيب، والخطاب السياسي اللبناني ظلّ يعبّر عن سذاجة سياسية ومحاولة بدائية للخديعة لا تنطلي على أحدٍ سوى الغارق في أوهام الصراعات الداخلية اللبنانية وتعقيداتها، التي سيكون على قيادات لبنان تبين مواضع أقدامهم في مستقبل لبنان الدولة والشعب في المستقبل.
إدارة الصراعات السياسية علمٌ وفن ومهارات، وهي ليست مواقف جامدة وصلبة، بل هي مرنةٌ ومتحركةٌ، وهي تدار بالرؤية الواضحة والتخطيط المحكم ثم بالحكمة والصبر وصولاً إلى النتائج المرجوّة، وكثيرٌ من الصراعات السياسية تبتدئ وتنتهي من دون الحاجة لقوة خشنة وعسكرية، بل بالعقلانية والواقعية السياسية.
النموذجان العراقي واللبناني كاشفان في هذا السياق، فالسعودية ودول الخليج تدعمان استقرار العراق وتصاعد تياراته الوطنية والنجاحات التي يحققها الشعب العراقي في رفض التدخلات الخارجية، ورفض الولاء الأعمى لبعض التيارات السياسية والميليشيات المسلحة للنظام الإيراني، بعيداً عن مصالح العراق وسيادته واستقلاله وأمنه، بينما المعادلة مختلفة في لبنان، فلبنان فشلت كل وسائل دعمه ومساندته لا بسبب «حزب الله» الإرهابي فحسب، بل بسبب تيارات سياسية متحالفة معه من أديان وطوائف أخرى، مع فشل كل القيادات السياسية في بناء مخرج يحمي الدولة والشعب، وهو ما شكّل عائقاً حقيقياً أمام أي أمل في التغيير، والفساد العريض لكل الطبقة السياسية أفشل المساعدات الخارجية، كما أفشل كل تحركات الشباب وأحبط آمالهم في بناء مستقبلٍ ينقذ بلادهم من براثن هذه التركيبة السياسية المعطوبة.
أثبت الابتعاد الكامل عن بعض الدول الفاشلة أنه ناجحٌ ومؤثرٌ، ويقلّل نسب الخطر وتكاليف المواجهة، وقد نجح هذا النموذج في السنوات الأخيرة وسينجح في لبنان، وهو لمصلحة لبنان الدولة والشعب، وقد جاء متأخراً شيئاً ما بسبب الحرص على الشعب اللبناني.
أخيراً، فأميركا الحضارة هي نموذجٌ إنسانيٌ مبهرٌ لا يقلّل من شأنه عاقلٌ، بينما أميركا السياسية شيء مختلفٌ تماماً.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أميركا الحضارة وأميركا السياسة أميركا الحضارة وأميركا السياسة



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 18:29 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي
المغرب اليوم - أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي

GMT 17:27 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
المغرب اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 13:12 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الحوت السبت 26-9-2020

GMT 13:22 2021 الأحد ,19 أيلول / سبتمبر

نادي شباب الريف الحسيمي يواجه شبح الانقراض

GMT 06:23 2023 السبت ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم السبت 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023

GMT 11:08 2023 الجمعة ,08 أيلول / سبتمبر

بلينكن يشيد بـ«الصمود الاستثنائي» للأوكرانيين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib