السودان دروس من ذهب

السودان.. دروس من ذهب

المغرب اليوم -

السودان دروس من ذهب

بقلم - يونس مسكين

تحفل الأحداث والتطورات المتسارعة، التي يعرفها العالم من حولنا هذه الأيام، بالدروس والعبر التي لن يكون لها معنى إلا بقراءتها واستخلاص العبرة منها في الوقت المناسب. الدرس هذه المرة جاء إلينا بنفسه وطرق بابنا بقوة، حيث استيقظنا قبل أيام على وقع آلة إعلامية ضخمة، بين قنوات فضائية ووكالات أنباء وسرب من «الذباب» الإلكتروني، تردّد على مسامعنا أن السلطات الجديدة في السودان حجزت ما سمته هذه الآلة، في مغالطة مقصودة، طائرة مغربية (الطائرة ليست مغربية) محملة بأكثر من قنطارين من الذهب في طريقها نحو التهريب. 
الآلة الدعائية، وبغض النظر عن النسبة الصحيحة من المعطيات التي استخدمتها، كانت تنطوي على استهداف خاص ومدروس للمغرب، حين نسجت خطابها على استعمال اسم شركة «مناجم»، التي يعرف القاصي والداني أنها واحدة من «جواهر» الهولدينغ الملكي، وربط نشاط هذه الشركة المغربية بالخبرة الفرنسية التي قالت إنها تستعملها، في صياغة محكمة لإثارة مشاعر دفينة لدى الأفارقة عموما، والمغاربة خصوصا، تجاه القوى الاستعمارية الأوربية.
نحن هنا -وضمن هذا العدد تحقيق يحاول تتبع خيوط القضية- لا نسلك درب نظرية المؤامرة، ولا ننزه أيا كان عن احتمال ارتكاب الخطأ، أو الضلوع في أعمال مشبوهة أو غير قانونية، أو حتى إجرامية، عابرة للحدود. ففي النهاية، هذه أنشطة تجارية تسيل لعاب الكائن البشري، وجميع الاحتمالات تبقى واردة. لكن ما يهما هنا هو التقاط الدروس التي طرقت بابنا بشكل مباشر هذه المرة، ولم تكل الأمر إلى نباهتنا وقدرتنا، أو رغبتنا، في الاتعاظ.
أول هذه الدروس هو خطر الجمع بين المال والسلطة على أي بلد، بغض النظر عن طبيعة نظامه السياسي وخصوصياته. فالجنرالات السودانيون الذين بعثوا رسالتهم (أو رسالة من يقف خلفهم) بشكل مدروس بعد «حجز» الطائرة المحملة بالذهب، لم يبحثوا، كما قال البعض، عن تلميع صورتهم، والظهور في هيئة من يدافع عن «مقدرات» الشعب ويزجر ناهبي ثرواته فقط، بل كانت الرسالة موجهة بإحكام إلى المغرب، وإلى الوتر الحساس، أي الهولدينغ الملكي.
هنا لا داعي إلى أي لف أو دوران، فإن الترياق الفعال لتجنب أي شبهة وإغلاق باب الذرائع، يكمن في دمقرطة النظام السياسي المغربي، عبر نقل السلطات التنفيذية والتشريعية بشكل شبه كامل، إن لم يكن الواقع يسمح بالنقل الكامل، إلى مؤسسات منتخبة ومسؤولة، وبالتالي، بالإمكان محاسبتها وإنزال العقاب بها، والتطويح بها عند الضرورة، مع إحاطة المسؤولين بقواعد قانونية صارمة تحل إشكالية تضارب المصالح، لتبقى دولة المغرب، وعلى رأسها مؤسستها الملكية، في منأى عن مثل هذا الاستهداف.
اللجوء إلى الأدب السلطاني، وفذلكة خطاب مبهم حول علاقة السلطان بالتجارة، هو مجرد التفاف على الإشكال الحقيقي الذي هو توزيع السلط وهندستها. الملك، كأي رئيس دولة في العالم، من حقه امتلاك الثروة وممارسة الأعمال الخاصة، كما هو حال رئيس أكبر ديمقراطية في تاريخ البشرية، أي الرئيس الأمريكي الحالي الذي يعتبر من كبار أثرياء بلاده، لكن الإشكال يكمن في غياب مؤسسات وقوانين تضمن الشفافية والفصل بين الشأنين العام والخاص، والرقابة الفعالة على المال العام والثروات الوطنية.
ثاني أهم الدروس التي أتتنا زائرة من بلاد السودان، هو هشاشة خيار المراهنة على التحالفات الخارجية مهما كانت وثيقة ومحاطة بالمصالح. فهذا السودان، الذي ظل يعتبر أحد أقرب حلفاء المغرب إليه، وظل رئيسه «صديقا» للمغرب رغم كل الظروف التي حولته إلى شخص مطلوب دوليا، أسقطته أولى رياح الثورة، وعرّت المصالح المغربية في هذا البلد، وبات من السهل استهدافها بالشكل الذي رأيناه. الرهان الأول والأخير لحماية أي نموذج في التنمية أو النمو، ينبغي أن يبنى على الاقتصاد الوطني وعلى الإنسان المواطن، من خلال التمكين له سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
ثالث أبرز الدروس السودانية يقول إن اختيار الهروب إلى الأمام لا يفيد، إلا بقدر ما يساعد أرنب السباق في ربح بعض الثواني قبل أن ينسحب تاركا المتسابقين يواجهون مصيرهم. فالبشير، الذي كان يعرف مقدار استهدافه من جل القوى الداخلية والخارجية، اعتقد أنه حصّن حكمه بتحالفات تجمع بين الأمني والعسكري والاقتصادي، وفق منظومة عنوانها الفساد والرشوة.
أما عندنا، فهناك من يحاول تسويق وهم تغييب مطالب الإصلاح بمزيد من الإفساد. وعوض حلّ الإشكالية المركزية المتمثلة في بنية السلطة وطبيعة النظام السياسي، كما بشّر بذلك خطاب 9 مارس 2011، تجرّنا بعض اللوبيات نحو تجريد المؤسسات المنتحبة والتمثيلية من صلاحياتها، وإلقائها بالكامل على كاهل المؤسسة الملكية. وعوض حلّ إشكالية ربط المسؤولية بالمحاسبة والجمع بين المال والسلطة، التي تضعنا الملكية التنفيذية فيها، عمدوا إلى إفراغ الدستور من روحه الديمقراطية، وتجريد الحكومة والبرلمان من رصيدهما من المصداقية وتمثيل الإرادة الشعبية، وفرض هيمنة رجال الأعمال عليهما.
للمغاربة مثل شعبي بليغ يقول: «رخيصة بتعليمة». ومثل هذه الضربات التي تأتي لتخلف خسائر محدودة، مثل موضوع طائرة الذهب السوداني، قد تكون في الحقيقة فرصة للانتباه، وإدراك خطورة الرهان على خيارات غير ديمقراطية. إنه درس من ذهب.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

السودان دروس من ذهب السودان دروس من ذهب



GMT 15:33 2021 الأحد ,31 كانون الثاني / يناير

شعر عربي اخترته للقارئ

GMT 15:29 2021 الأحد ,31 كانون الثاني / يناير

شعر المتنبي - ٢

GMT 15:18 2021 الأحد ,31 كانون الثاني / يناير

من شعر المتنبي - ١

GMT 23:58 2021 الثلاثاء ,26 كانون الثاني / يناير

شعر جميل للمعري وأبو البراء الدمشقي وغيرهما

GMT 21:18 2021 الإثنين ,25 كانون الثاني / يناير

أقوال بين المزح والجد

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ المغرب اليوم

GMT 08:14 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

ألمانيا تحاكم 4 أشخاص بزعم الانتماء لـ "حماس"
المغرب اليوم - ألمانيا تحاكم 4 أشخاص بزعم الانتماء لـ

GMT 08:59 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته
المغرب اليوم - أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته

GMT 08:25 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

اندلاع حريق ضخم في موقع لتجارب إطلاق صواريخ فضائية في اليابان
المغرب اليوم - اندلاع حريق ضخم في موقع لتجارب إطلاق صواريخ فضائية في اليابان

GMT 02:13 2018 الأربعاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

تمثال لدبين قطبيين يُثير ذهول عملاء مركز تسوق

GMT 07:35 2016 الأحد ,18 كانون الأول / ديسمبر

أفضل مناطق لسياحة التزلج على الجليد في أوروبا

GMT 14:22 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

زلزال بقوة 3.2 درجة تضرب ولاية "مانيبور" الهندية

GMT 19:58 2020 الخميس ,09 كانون الثاني / يناير

أسماك القرش تنهش جثة لاعب كرة قدم في أستراليا

GMT 18:31 2019 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

تشابي ألونسو يؤكد جوارديولا سبب رحيلي عن ريال مدريد

GMT 21:58 2019 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

لطيفة رأفت تلهب مواقع التواصل الاجتماعي بمظهر جذاب

GMT 19:58 2019 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

دراسة تكشف عن قدرات النمل في علاج نفسه والنباتات

GMT 16:57 2019 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

تأجيل مباراة الرجاء البيضاوي ورجاء بني ملال

GMT 13:23 2019 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

لعبة SPIDER-MAN الأكثر مبيعا داخل اليابان في سبتمبر

GMT 15:35 2019 الأربعاء ,27 آذار/ مارس

وفاة شخص في حادثة سير خطيرة وسط الدار البيضاء
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib