جولة في عقل القيصر

جولة في عقل القيصر!

المغرب اليوم -

جولة في عقل القيصر

راجح الخوري
بقلم - راجح الخوري

 

لا يخرج تصريح المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، يوم الثلاثاء الماضي، عن سياق استراتيجية التلاعب بأعصاب الولايات المتحدة وحلف الناتو، التي ينفّذها فلاديمير بوتين ببراعة مدهشة، جعلت الاستخبارات الأميركية تعلن صراحةً (الأربعاء)، أنها لا تفهم ماذا يدور في رأس بوتين، بعدما سحبت عام 2017 عميلاً لها، سبق أن دسّته في الدائرة الداخلية المقربة من بوتين، فحالة الغموض والترقب والحذر هي المسيطرة بعد السياق التصاعدي والحشود العسكرية على حدود أوكرانيا. تقول زاخاروفا إن يوم 15 فبراير (شباط) من عام 2022 سيدخل التاريخ مع فشل دعاية الحرب الغربية: «لقد تعرضوا للعار والتدمير من دون إطلاق رصاصة واحدة»، وجاء ذلك بعد إعلان المتحدث باسم وزارة الدفاع الروسية إيغور كوناشينكوف عن سحب مجموعات قتالية روسية من الحدود مع أوكرانيا.
واضح أن هذا جزء من الحرب النفسية التي تشنها موسكو ضد واشنطن ودول الناتو، والتي وصلت إلى حد إثارة الذعر في كييف عبر آلاف الإفادات الكاذبة عن قنابل ستنفجر هنا وهناك وهجمات سيبرانية على مؤسسات الدولة، في وقت بدا فيه الموقف الغربي متردداً أولاً ثم مرتبكاً، رغم كل التحذيرات الأميركية من أن مواجهة حازمة ستقابل أي هجوم روسي على أوكرانيا، وأن الأمور قد لا تتوقف على فرض عقوبات مدمرة على روسيا.
لكنه فلاديمير بوتين الذي لا يطلقون عليه عادةً لقب القيصر عبثاً، فقد بات واضحاً منذ جلوسه في الكرملين، أنه يتصرف فعلاً بعقلية مَن يؤمن بأنه القيصر الجديد، الذي سيعيد للقومية السلافية قوتها ووحدتها، وهنا تكتسب أوكرانيا أهمية بالغة عنده لأنها الضفة السلافية للروس السلافيين، أو كما كان يقول حافظ الأسد: «لبنان وسوريا شعب واحد في بلدين»، وكان أيضاً لروسيا نفوذها الذي يتجاوز الحدود، التي توسعت في زمن الاتحاد السوفياتي، لتشمل ضم 15 دولة تمتد من البلطيق إلى آسيا الوسطى ولتصل إلى أبعد من ذلك بكثير.
لكن السؤال الذي لم يجد جواباً عنه بعد هو: متى يندمل الجرح العميق الذي تركه انهيار الاتحاد السوفياتي في نفسية بوتين.. يوم كان يقف في بداية السلم ضابطاً في الاستخبارات، استيقظ فجأة ليحس أن جدار برلين انهار فوق رأسه كما قال، وليس فوق رأس الإمبراطورية الماركسية التي سقطت كخردة؟
بعدما وصل إلى بلاط الرئيس بوريس يلتسين، دبّر بدهاء رجل الاستخبارات صعود سلم السلطة سريعاً، موحياً للغرب دائماً بأنه يلتزم الديمقراطية ويؤمن بالاقتصاد الحر، بينما انصرف عملياً إلى السعي لإعادة بناء الإمبراطورية الروسية على قاعدتين؛ أولاً إعادة بناء جيش قوي يحمي روسيا، وثانياً التخلص من الليبراليين وإعطاء الكنيسة التي غيّبتها الشيوعية دورها وأراضيها المصادَرة، فهي أساساً التي غذّت فكرة «اختراع روسيا» القائمة على سيادة العرق الروسي السلافي منذ عام 1472، وهكذا ليس غريباً أن يتحدث بوتين دائماً عن فلسفته «استعادة التاريخ كأساس للمستقبل»، وعلى هذا لم يكن مفاجئاً أن يحاول تقمص شخصية القيصر وتحديداً نيقولاوس الثالث الذي يعلّق صورته في الكرملين.
على قاعدة عوامل هذه السيكولوجيا وأثرها النفسي والفلسفي والديني لبوتين نستطيع أن نفهم سبب حشد نصف عديد جيشه على حدود أوكرانيا والتهديد باجتياحها من الشرق والشمال والجنوب، ونستطيع كذلك أن نفهم استعادته الشيشان بالقوة المدمِّرة، لأنه يعدّها جزءاً من حدود روسيا، وكذلك الاستيلاء على جزء من أراضي جورجيا التي أرادت أن تلتحق بأميركا، ثم أوليس هذا ما فعله في القرم عام 2014، ثم استيلاؤه على أراضٍ في شرق أوكرانيا ودعم المتمردين في دونيتسك ولوغانسك؟!
أحلام بوتين القيصرية التي ترى أن التاريخ يمكن أن يشكّل قاعدة لصنع المستقبل، لا تتوقف في دائرة القومية السلافية وأراضي الاتحاد السوفياتي التي تفتَّتَتْ، فحتى الدول البعيدة تبقى محطَّ «اهتمامه القيصري العميق» لأنها بالتالي تعيد إلى التاج القيصري أهميته ووزنه في مواجهة الانفلاش الغربي شرقاً، وفي هذا السياق لم ينسَ الكثيرون، عندما وقف رئيس الكنيسة الأرثوذكسية يبارك الجنود الذاهبين إلى سوريا ويصف مهمتهم بالمقدسة، ويجب ألا ننسى طرح السؤال: لماذا يتدخل بوتين في ليبيا إن لم تكن تشكل توسيعاً لشريط الهيمنة، أو لأنها قريبة من اليونان الأرثوذكسية ولها أهمية استراتيجية كبرى بين آسيا وأوروبا وأفريقيا؟
بالعودة إلى أزمة أوكرانيا التي تضع العالم فوق سطح من الصفيح الساخن، وبغضّ النظر عن صحة الكلام في تصريح زاخاروفا، من الضروري جداً أن نعود لنتأمل جيداً في نتائج الاتصال بين جو بايدن وبوتين، قبل أسبوعين، حيث بدا واضحاً أن القيصر يتلاعب عميقاً بأعصاب الغرب. فعلى امتداد أكثر من ساعة ونصف بدا أن بايدن كأنه يريد «تجنب الصراع والمواجهة»، بينما بدا بوتين أنه حازم في «رفض الإكراه»، وهو ما يذكر أنه أعلنه من أن الولايات المتحدة سبق أن أبلغت القادة السوفيات مراراً، بأنها ستدمج روسيا في «إطار أمني أوروبي تعاوني لكن من الناحية العملية»، لكن الناتو يبقى عند بوتين إطاراً أمنياً تسيطر عليه الولايات المتحدة، وتستعجل أوكرانيا الانضمام إليه، لهذا كانت موسكو قد طالبت القوى الغربية الشهر الماضي بإجراءات أمنية واسعة النطاق، بينها:
أولا، منع أوكرانيا من الانضمام إلى الناتو. ثانياً، يجب على الحلف إنهاء النشاط العسكري في أوروبا الشرقية وسحب القوات من بولندا وجمهوريات البلطيق (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا). ثالثاً، يجب ألا ينشر الناتو صواريخ في دول قريبة من روسيا أو على الحدود معها.
لكن الولايات المتحدة ردت هي وحلف الناتو أن لأوكرانيا الحق في اختيار حلفائها. وهكذا نشبت الأزمة التي تشغل العالم الذي يتخوّف من أن تتحول أي حرب عادية فيها إلى حرب نووية كارثية، لكن بدا في الأسبوعين الماضيين أن احتمالاتها المقلقة بدأت بالانحسار.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

جولة في عقل القيصر جولة في عقل القيصر



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 00:54 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

روحي فتوح لتولّي رئاسة السلطة الفسطينية حال شغور المنصب
المغرب اليوم - روحي فتوح لتولّي رئاسة السلطة الفسطينية حال شغور المنصب

GMT 22:21 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يناقش إبعاد بعض وسائل الإعلام من البيت الأبيض مع نجله
المغرب اليوم - ترامب يناقش إبعاد بعض وسائل الإعلام من البيت الأبيض مع نجله

GMT 18:29 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي
المغرب اليوم - أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي

GMT 17:27 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
المغرب اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 07:41 2024 الإثنين ,28 تشرين الأول / أكتوبر

إكس" توقف حساب المرشد الإيراني خامنئي بعد منشور بالعبرية

GMT 16:47 2022 الجمعة ,14 كانون الثاني / يناير

حزب التجمع الوطني للأحرار" يعقد 15 مؤتمرا إقليميا بـ7 جهات

GMT 13:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 06:07 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

صادرات الحبوب الأوكرانية تقفز 59% في أكتوبر

GMT 06:23 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

صندوق النقد يتوقع نمو اقتصاد الإمارات بنسبة 5.1% في 2025

GMT 06:50 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

نصائح لتحديد أفضل وقت لحجز رحلاتكم السياحية بسعر مناسب

GMT 04:32 2020 الإثنين ,23 آذار/ مارس

ستائر غرف نوم موديل 2020

GMT 15:48 2020 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

لا تتسرّع في خوض مغامرة مهنية قبل أن تتأكد من دقة معلوماتك

GMT 05:27 2015 الأربعاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران تشن حملة ضد ممثلة نشرت صورها دون الحجاب

GMT 07:16 2016 الخميس ,18 شباط / فبراير

الهاتف "ري فلكس" يطوى ليقلب الصفحات مثل الكتاب
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib