الكوميديا الانتخابية في لبنان

الكوميديا الانتخابية في لبنان!

المغرب اليوم -

الكوميديا الانتخابية في لبنان

بقلم - راجح خوري

في ساحات بيروت والمدن اللبنانية لم يبقَ مكان ليغطي عليه عصفور أو يمامة، فقد اكتسحت الشعارات واللافتات الانتخابية الأمكنة في فيض هائل من وعود المنّ الوطني والسلوى السياسية، لن تلبث أن تهبط على هذا الشعب البائس المتعطش إلى كل اهتمام تقريباً!

قد يصاب الزائر الغريب بالذهول وهو يقرأ محتويات هذه الشعارات واللافتات من منطلق أنها تُجمع كلها تقريباً، على تقبيح الواقع القائم في البلاد، وتعد بحال أفضل وبحلول تريد أن تنتشل اللبنانيين من الجحيم الذي فيه يعانون إلى الجنة التي بها يحلمون.

قليل من التأمل في الدافع السيكولوجي الذي كان وراء هذا الطوفان من الشعارات البراقة المرفوعة والوعود الذهبية، يكفي لنذهب إلى الاستنتاج أن الوضع في حاله الراهنة والسابقة، كارثي لجهة قطاعات التربية والصحة والاقتصاد والبطالة والغلاء والحركات المطلبية الشعبية والبيئة والكهرباء والماء الملوث والفساد المتوحش الذي ينخر في دوائر الدولة والسمسرات والخوات والغش والمحاصصات والتوظيف الكيفي والتلزيمات المشبوهة والفواتير الملغومة والمليارات التي تصرف على جمعيات وهمية، بينها على سبيل المثال لا الحصر مبلغ مائتي مليون دولار على «تحسين نسل الجواد العربي»، وصدّق أو لا تصدّق!

طبعاً لا مغالاة في كل هذا، لكن المفارقة مفارقتان تقريباً؛ أولاً لأن الشعارات واللافتات المرفوعة تجمع على أنها ستنتشل لبنان واللبنانيين من هذه الحال المأسوية، وثانياً وهو الأهم أنها لا تطرح أسئلة واضحة وصريحة تحدد المسؤولية والمسؤولين الذين أوصلوا البلاد إلى هذه الحال، وعند هذا الحد قد تصبح الفاجعة قاتلة تماماً، عندما يتذكر المواطن اللبناني أن الذين يرفعون شعارات الخلاص من الأزمة والوعود بالجنة والخلاص، ليسوا في الواقع، في معظمهم (كي لا نقع في التعميم)، سوى أولئك الذين عكفوا في الأعوام الماضية على إيصال الأوضاع إلى ما هي عليه من التردي والانهيار!

حتى لو تجاوزنا هذا الواقع المؤسف وحاولنا فعلاً أن ندخل إلى خلفيات العملية الانتخابية، ولن أقول جوهر هذه العملية، لأنها مُفرّغة تقريباً من الجوهر، فسنجد أمرين مفجعين تماماً:

الأول، أن المقترع اللبناني لم يستمع إلى مناقشة واحدة أو إلى مناظرة بين مجموعة من المتنافسين حول برامج تمثيله في هذه الدائرة الانتخابية أو تلك، ولم يتسنَ للناس معرفة ماذا يحمل هذا من أفكار وبرامج وماذا أعد منافسه من معالجات وحلول، وليس في تاريخ أي انتخابات تعطي وكالة عامة لمدة أربعة أعوام، مثل هذا التجاهل أو التغاضي عن تقديم امتحانات شفوية أمام الناخبين لجهة المشكلات القائمة والحلول الموعودة لحلها.

كل ما يجري هو مبارزة في البكاء على الواقع الذي وصل إليه الوضع في لبنان، لكن من دون توفير المناديل ولو لمسح الدموع كي لا نتحدث عن معالجة المشكلات وإنهاء المآسي التي تتراكم.

والمشكلة أن أكثر من خمسين في المائة من المرشحين الذين يرفعون شعاراتهم الانتخابية على خلفيات اتهامية للواقع والماضي هم أنفسهم أو من أبناء أو أنسباء أو إخوة أو أنصار أو أقارب أو ورثة الذين كانوا يمثلون الناس في الندوة النيابية سابقاً، فإذا كان هذا الواقع الكارثي وكل هذا السوء والاهتراء هما نتيجة نيابة الذين صنعوا هذا الواقع وحافظوا عليه لمدة تسعة أعوام على الأقل تمديداً وتعطيلاً، فهل أن ورثتهم سيكونون أفضل منهم وقد درسوا في مدرسة سياسية واحدة وتتلمذوا على أن النيابة هي للجاه لا لخدمة الناس والمجتمع؟

الأمر الثاني يبدو الآن أكثر فظاظة وبشاعة، وهو يتصل بالطرق الغريبة والعجيبة التي تفرضها التحالفات وتشكيل اللوائح الانتخابية، التي وصلت إلى ما يشبه لعبة البارولي أي المراهنات على سباقات الخيل، بمعنى إلقاء كل الشعارات والقيم والوعود في سلة المهملات، والانكباب على شيء واحد وهو الماكينات الحاسبة، بمعنى تعالوا نضع السياسة في الخرج ونتفق على أن الأرقام سيدة اللعبة، فهي التي تقرر في النهاية، بمعنى أن التحالف مع هذا الخصم هنا في هذه الدائرة يفيدنا ويفيده، والتنافس معه في تلك الدائرة لا مفر منه.

لا قواعد ولا سياسات ولا وبرامج ولا أهداف موحدة، مجرد عمليات حسابية، جمع وطرح وقسمة، والهدف واحد محاولة الحصول على مقعد هنا أو هناك. الذين يغرقون في الملاكمة الانتخابية في هذه الدائرة البيروتية، يتبادلون الأصوات والقبلات في تكتل الدائرة الجنوبية مثلاً، وهكذا صارت العملية الانتخابية بورصة أو ردهة لتبادل الأصوات أو على الأغلب «سوق أوقية» كتلك التي كانت قائمة في بيروت في الماضي!

يغرق لبنان كما لم يحصل من قبل في طوفان من الخطب والوعود الكلامية الفارغة أملتها طبيعة القانون الانتخابي النسبي والمعقّد والعويص، الذي عندما أرسل نصه أحد الوزراء السابقين إلى 280 سياسياً بينهم نواب ووزراء وجاءته الأجوبة فاجعة، ذلك أن معظمهم لم يفهمه كاملاً، وما يزيد من التعقيد هذا الفيض الهائل من القوائم الانتخابية، ففي بعض الدوائر تجد أكثر من ثماني لوائح متنافسة، وهو ما أدى إلى ظهور ما يمكن تسميته «الصوت الذهبي» أي «الصوت التفضيلي» الذي يعطي للمقترع أن يختار واحداً من اللائحة على أساس القضاء فيعطيه صوته!

وانطلاقاً من هذا، ظهر بازار الصوت التفضيلي، ولقد شاهدت الأسبوع الماضي إعلاناً صريحاً يقول: «الصوت التفضيلي بألف دولار»، ما سيفتح باب رزق جديداً على الهامش الانتخابي!

في العمق ليست هذه انتخابات تصحح التمثيل العام الأعوج في لبنان.. قطعاً لا، هذه فوضى تمثيلية اختلط فيها الحابل بالنابل في عمليات حسابية بليدة لا علاقة لها بالسياسة أو المسؤولية. الوزير السابق رشيد درباس كتب مقالاً قال فيه إن «الذي صاغ نصوص القانون الانتخابي الجديد يستشفي في أحد المصحات النفسية»، وطبعاً ليس في هذا أي مبالغة!

بيان الرئيس حسين الحسيني لم يكن استقالة من خوض الانتخابات، بل بيان اتهامي عنيف موجه إلى مساراتها التي سمّاها «استنياباً»، داعياً إلى مواجهة الغابة الأوليغارشية السياسية التي تشوّه عملية التمثيل العام قانوناً وسلوكاً، وخصوصاً عندما شكا من سطوة المال وسلاح «حزب الله» والأبواق والنعرات الطائفية والمذهبية والتدخل الأجنبي السوري تحديداً، واستخدام مؤسسات الحكم والإدارات والأجهزة الرسمية والأملاك العامة الخاصة والشخصية أو الحزبية في العملية الانتخابية… الهزلية!

حتى مجموعات المجتمع المدني تمزقت على الحدّ القاطع لهذا القانون العجيب!

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الكوميديا الانتخابية في لبنان الكوميديا الانتخابية في لبنان



GMT 14:15 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

في ذكرى النكبة..”إسرائيل تلفظ أنفاسها”!

GMT 12:08 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

مشعل الكويت وأملها

GMT 12:02 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

بقاء السوريين في لبنان... ومشروع الفتنة

GMT 11:53 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

“النطنطة” بين الموالاة والمعارضة !

GMT 11:48 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

نتنياهو و«حماس»... إدامة الصراع وتعميقه؟

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 18:29 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي
المغرب اليوم - أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي

GMT 17:27 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
المغرب اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 13:12 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الحوت السبت 26-9-2020

GMT 13:22 2021 الأحد ,19 أيلول / سبتمبر

نادي شباب الريف الحسيمي يواجه شبح الانقراض

GMT 06:23 2023 السبت ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم السبت 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023

GMT 11:08 2023 الجمعة ,08 أيلول / سبتمبر

بلينكن يشيد بـ«الصمود الاستثنائي» للأوكرانيين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib