أوطاني الأولى

أوطاني الأولى

المغرب اليوم -

أوطاني الأولى

بقلم - لمرابط مبارك

لم نكن، أنا ومن هم من الجيل الذي اكتشف الطاولات الخشبية الداكنة للمدرسة في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، نستظهر النشيد الوطني بل كنا نردد تلك الأناشيد برناتها الخفيفة على القلب.. تلك الأناشيد التي تاهت كلماتها عن البال مع كل ما تاه عنه، ولكن بقيت نغماتها هنا على طرف اللسان وهناك في تلافيف الروح. (مدرستي الحلوة.. مدرستي الحلوة .. مدرستي الحلوة فيها تربينا.. قولو معنا يا لي تحبونا أو ذاك النشيد الأخر بالفرنسية: il était une fois un petit navire.. qui navait ja ja jamais navigué ….).

كنا نرددها بأصواتنا الحادة المفعمة بذلك الحماس الدافئ.. حماس من يكتشف عالما جديدا بكل حواسه… القسم بألوانه الداكنة، السبورة السوداء الذي أنهكتها الكتابة والمحو، طعم الطباشير وقلم الرصاص، صوت المعلمة القوي ورائحة اللوحة السوداء وأوراق الدفتر النفاذة…

ولم نكن أعبأ بشيء اسمه الوطن ولا الانتماء..

كانت لي أوطان:

البيت البسيط والضيق الذي كان يبدو واسعا وعاليا، والذي تؤثثه أمازيغية الوالد والوالدة ورائحة الحبق والحنا التي لا تفارقها..

الدرب الضيق الذي كان يبدو لي واسعا بحجارته الرمادية وتربته بمذاقها «الباسل».. الدرب خيمتي الأولى التي لا سقف لها التي تعلمت فيه أولى خطواتي في هذه الحياة، واكتشافاتي الأولى للآخر.. للآخرين، واكتشفت أنني أشترك مع آخرين في حب فريقي لكرة القدم وأختلف مع آخرين كثر، واكتشفت بعض من مهاراتي في اللعب والجري، وقدرتي على الاتفاق مع الأصدقاء وائتمان بعضنا بعضا.

المدرسة بأقسامها ذات السقوف العالية وطاولتها الداكنة، وخوفنا من غضب المعلمة وحماسنا لترديد الحروف والكلمات، وقصتي المحزنة مع حرف «الحاء» الذي لم أفلح في رسم بطنه المنتفخة إلا بصعوبة..

لم أكن في حاجة إلى ترديد النشيد الوطني في الفصل مرة أو أكثر في الأسبوع لأحس بدفء هذه الأماكن كلها، ولا للاعتزاز بها، والتشبث بها.

في تقديري الإحساس بهذا الشيء الهلامي الذي يسمى الوطن والاعتزاز به يبدأ بتكريس الانتماء العفوي إلى هذه الأوطان «الأولى»، في تلك النطفة الهشة الأولى التي ينمو منها كل شيء أو يموت.

في البيت ينشأ الإيمان بهذا الشيء المسمى الوطن كملاذ آمن ودافئ تماما مثل حضن الأم، وفي الدرب والحي ينشأ الوعي بالمشترك مع الآخر المختلف، وتتكرس قواعد التعامل معه وقوانين تدبير المشترك، والتدرب على احترام الاختلافات العرقية (الأمازيغي يجاور الدكالي والعبدي يعيش مع الفاسي في المنزل ذاته، والريفي يقطن فوق أو تحت القادم من وزارزات أو الراشيدية….)، والطبقية (العامل البسيط يعيش جارا لصاحب المقهى، والخياط يكتري شقة من عند الأستاذ….).

وفي المدرسة (ثم الثانوية والجامعة) أخيرا، يجري مبديا الوعي بأن كل هذه العناصر تتضافر لتكون نسيجا كبيرا يشمل الحي والمدينة والبلاد برمتها. ويتم اكتشاف أن كل هذه العناصر البسيطة لها امتداد في الزمن ولها تقلبات (التاريخ وإن كان رسميا مبتسرا)، ولها امتداد في المكان (الجغرافيا باختزالاتها)، ولها لغة أو لغات مشتركة، وتندرج في إطار مشروع مجتمعي.

لست أعتقد البتة أن ترديد النشيد الوطني بشكل ببغائي ومصطنع مرة في الأسبوع أو حتى كل يوم، كفيل بجعل التلميذ المغربي محبا أكثر لوطنه في مدرسة تجعله يحس بكل هذه الانتماءات الصغيرة التي تشكل الانتماء الكبير للبلاد.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أوطاني الأولى أوطاني الأولى



GMT 14:15 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

في ذكرى النكبة..”إسرائيل تلفظ أنفاسها”!

GMT 12:08 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

مشعل الكويت وأملها

GMT 12:02 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

بقاء السوريين في لبنان... ومشروع الفتنة

GMT 11:53 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

“النطنطة” بين الموالاة والمعارضة !

GMT 11:48 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

نتنياهو و«حماس»... إدامة الصراع وتعميقه؟

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 00:54 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

روحي فتوح لتولّي رئاسة السلطة الفسطينية حال شغور المنصب
المغرب اليوم - روحي فتوح لتولّي رئاسة السلطة الفسطينية حال شغور المنصب

GMT 22:21 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يناقش إبعاد بعض وسائل الإعلام من البيت الأبيض مع نجله
المغرب اليوم - ترامب يناقش إبعاد بعض وسائل الإعلام من البيت الأبيض مع نجله

GMT 18:29 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي
المغرب اليوم - أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي

GMT 17:27 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
المغرب اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 07:41 2024 الإثنين ,28 تشرين الأول / أكتوبر

إكس" توقف حساب المرشد الإيراني خامنئي بعد منشور بالعبرية

GMT 16:47 2022 الجمعة ,14 كانون الثاني / يناير

حزب التجمع الوطني للأحرار" يعقد 15 مؤتمرا إقليميا بـ7 جهات

GMT 13:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 06:07 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

صادرات الحبوب الأوكرانية تقفز 59% في أكتوبر

GMT 06:23 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

صندوق النقد يتوقع نمو اقتصاد الإمارات بنسبة 5.1% في 2025

GMT 06:50 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

نصائح لتحديد أفضل وقت لحجز رحلاتكم السياحية بسعر مناسب

GMT 04:32 2020 الإثنين ,23 آذار/ مارس

ستائر غرف نوم موديل 2020

GMT 15:48 2020 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

لا تتسرّع في خوض مغامرة مهنية قبل أن تتأكد من دقة معلوماتك

GMT 05:27 2015 الأربعاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران تشن حملة ضد ممثلة نشرت صورها دون الحجاب

GMT 07:16 2016 الخميس ,18 شباط / فبراير

الهاتف "ري فلكس" يطوى ليقلب الصفحات مثل الكتاب
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib