السَّمَاوِي

السَّمَاوِي!

المغرب اليوم -

السَّمَاوِي

بقلم : رشيد مشقاقة

يسهل على الأبحاث الجنائية أن تكشف الثروات المشبوهة التي نجح أصحابها في إخفائها عبر مشاريع استثمارية مشروعة، وَتَمْتَدُّ يَدُ القانون إلى تجريم هذا الصنف من الأفعال، فيطال أصحابها العقاب سِجْناً وغرامة ومصادرة لتلك الأموال!

إن كان دَيْدَنُ المشرع والقاضي يَسيرا في اختراق هذه الدهاليز الغامضة، فإن الأمر ليس، كذلك، في ضبط جرائم تبييض الأقوال، وقد تكون هذه أخطر من سَابِقَتِهَا في ما ينجم عنها من نتائج تَنْخُرِ عُودَ المجتمع وتطرحه أرضا لِيُصَنّف في عِدَاد ماسِكِي ذيل الترتيب بين المجتمعات المتقدمة!

نَحْنُ نَعْجِزُ عن ضبط جرائم تبييض الأقوال، لأننا نقبل عليها بسبق إصرار وتَرَصّد ونحن في كامل قِوانا العقلية، فَتَنْمَحِي إرادة العمل على القضاء عليها!

ونعجز أيضا عن ضبطها لأن التشريع لا يُجَرِّمُهَا، كما هو عليه الحال في تجريم تبييض الأموال!

فلا جريمة ولا عقوبة إلاَّ بنص، وقد يفلح المناصرون على تصنيفها في المخالفات الأدبية أو الأخلاقية التي لا تمتد إليها يد النصوص الجنائية. فتستشري تبعا بذلك، وتتخذ أشكالا وصورا واجتهادات داخل الوسط المجتمعي!

وَنَعْجِزُ أيضا وأيضا على ضبطها لاكتساحها مجالات متعددة حيوية في مجالات تصريف أمور الحياة الاقتصادية والاجتماعية والدينية والثقافية، وقد تكون الشريان الرئيسي الذي يَضُخُّ دِمَاء الاستكانة والهدوء والانخداع والاستمالة، فلا يملك ضحاياها القدرة على صدها إما جهلا أو تظاهراً بالجهل من باب الاستفادة!

تفلح جرائم تبييض الأقوال في أداء رسائلها المُشَفَّرَة على أكمل وجه، وبتصميم دقيق باستعمالها عدَّة أدوات تتسلل إلى الإرادات فَتُضْعِفُهَا وتسلُبُهَا روح المقاومة، فالجاني من هذا الصنف قد يداعب عقيدة الزبناء، فيستعمل الدين وسيلة لضمان وفلاح رسالته، فيتخذ له شكل المُؤْمِن القانت الملتزم الذي يسلب العقول والأفئدة فَتَتْبَعُهُ جحافلُ القوم مردّدَةً وراءه شِعَارَاتِهِ الجوفاء الخالية تماما من العمل الجَادّ المُشْرَبِ وبالنَّوايا الحسنة المغَلَّفة بالابتهالات!

وقد يداعب الجاني من هذا الصنف أيضا احتجاجات وفاقة المستضعفين، فيناصر الفئات الهَشَّة ويقف بينها خطيبا مُنْضَويا تحت لواء حامي حمى الفقراء كي يرتفع منسوب مياه دعوته الجارفة وترتفع أوراق المصوتين على برنامجه الاجتماعي الخادع!

وقد يستعمل الجاني، كذلك، الجنس والمال وسيلة لتبييض أقواله بما يلهب حماس المؤيدين، فتنهار الإرادات وتشل، ويستبد الجاني بالنزوات والإغراءات، فلا يملك ضحاياه سلطة المعارضة أو التمرد!

تزدهر تجارة تبييض الأقوال في المهام التمثيلية مهما تباينت أهدافها وتناسلت قنواتها، وبقدر ما انتشرت هذه الجريمة داخل المجتمع، بقدر ما تعثرت الخطى وانهارت القيم وتأزمت الأوضاع، وبقدر ما يعجز الواعون بخطورتها عن محاربتها لشراسة جيوب المقاومة، بقدر ما يسود اليأس والإحباط وتجريف المؤسسات من قيمها المثالية التي تقوم عليها.

لا جريمة ولا عقوبة إلاّ بنص، يستفيد جناة الأقوال، وحملة مصابيح السراب والمنتفعين والمتهافتين وباعة الوهم من هذه القاعدة القانونية الأصولية، فلا يطالهم العقاب فيجتهدون في تطويع الإرادات وتحقيق غزوات وانتصارات تدوس على المبادئ والقيم التي بدونها لا تقوم للمجتمع قائمة، فالخَلاَيَا المريضة لا يمكن أن تنتج إلاّ خلايا مثلها!

إذا كان من السهل جدا ضبط جرائم تبييض الأموال، وتتبع مصادرها لتجفيفها باعتبارها أعمالا مادية، ما لم يقع صرف النظر عن بعضها عمدا واختيارا، وإذا كان تأثيرها على المجتمعات يَتَجَلَّى في ما تَخْلُقُهُ من تضخم نقدي وفوارق طبقية صارخة!

فإنه من الصعب جدا ضبط جرائم تبييض الأقوال بواسطة القانون، وتتبع مصادرها وتدفقها باعتبارها أعمالا غير مادية، على أن تأثيرها على المجتمع أكثر من المساس بالاقتصاد الوطني الذي تساهم فيه الجرائم الأولى، فهي تمس بوجود المجتمع وكيانه واستمراره. فإن عجزت يد القانون أن تطال جُنَاةَ تبييض الأقوال، فإن التربية على الأخلاق الفاضلة هي السبيل الأمثل، ولم يخطئ أمير الشعراء أحمد شوقي عندما قال:

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت

فإنهم ذهبت أخلاقهم ذَهَبُوا

ولعل المأثور الشعبي الدارج لم يُخطئ عندما سماها “السماوي”، أي فن تبييض الأقوال والنوم في العسل!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

السَّمَاوِي السَّمَاوِي



GMT 04:53 2017 الأربعاء ,17 أيار / مايو

غَنِّي لِي شْوَيَّ وْخُذْ عينيَّ!

GMT 05:44 2017 الأربعاء ,03 أيار / مايو

شُفْتِنِي وَأَنَا مَيِّت!

GMT 05:01 2017 الأربعاء ,26 إبريل / نيسان

القاضي الشرفي!

GMT 04:55 2017 الأربعاء ,19 إبريل / نيسان

لاَلَّة بِيضَة!

GMT 05:42 2017 الأربعاء ,05 إبريل / نيسان

الصَّرْدي مفخرة وطنية!

أحلام تتألق بإطلالة لامعة فخمة في عيد ميلادها

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 22:35 2025 الإثنين ,17 شباط / فبراير

رامز جلال يكشف عن اسم برنامجه الجديد في رمضان 2025
المغرب اليوم - رامز جلال يكشف عن اسم برنامجه الجديد في رمضان 2025

GMT 20:42 2025 الأحد ,26 كانون الثاني / يناير

ثريدز تختبر إعلانات وصور بين المنشورات للمستخدمين

GMT 13:39 2023 الأحد ,24 كانون الأول / ديسمبر

أغماني يُحذر من آثار حرب غزة على قطاع السياحة المغربي

GMT 08:19 2021 الإثنين ,03 أيار / مايو

مواصفات وأسعار فولكس فاجن تيجوان موديل 2021

GMT 01:51 2020 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

شركة جينيسيس تقدم أول إنتاجها من موديلات SUV الفاخرة

GMT 07:40 2019 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

مناقشة رواية "الخواجا" في نادي التجاريين بالقاهرة الأربعاء

GMT 13:22 2019 الخميس ,29 آب / أغسطس

"بريتيش موتور" تطرح أول سيارة مينى موريس

GMT 22:33 2019 السبت ,20 تموز / يوليو

مكياج عروس بالوان ترابية خاص بالمحجبات
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib