سنوات النصب

سنوات النصب

المغرب اليوم -

سنوات النصب

جمال بودومة

كان له اسم غريب، «قرّو»، ولا أحد يعرف هل ذبح أهله خروفا كي يناديه الناس هكذا أم هو مجرد لقب يطارده من أيام الجندية، التي قضى فيها بضع سنوات قبل أن يقرر الهروب. خرج ذات صباح من الثكنة دون ترخيص ولم يعد، «Il a déserté» أو «زَرْطا» بالمعجم العسكري، بعد أن ملّ إهانات «لاجودان» المجنون، الذي يجد متعة في التنكيل بالجنود الذين تحت إمرته. سرق البذلة و»البرودكان» و»الموزيت» ولاذ بالفرار. لكن أصحاب النياشين لا يمزحون. بعد أسابيع من التخفي ألقت عليه الشرطة العسكرية القبض. تلك الفيالق التي يرتدي أصحابها زيّا مميزا ويتجولون في المدن العسكرية كي يراقبوا سلوك الجنود خارج الثكنات، «La patrouille» أو «الباطروي» كما يسميهم قرو وزملاؤه السابقون. اقتادوه إلى السجن، حيث أمضى شهورا محترمة وراء القضبان قبل أن يستعيد حريته بشكل نهائي: شُطب من سلك الجندية واستعاد صفته المدنية، وبدأ رحلة عبثية في البحث عن عمل دون أن يتوفق، لأن عنده «الوسخ فالضوسي»، أي لديه «صحيفة سوابق». بعد أن طرق عدة أبواب ولم يفتح له أحد، عثر أخيرا على مهنة شريفة: النصب. كل أربعاء، كان قرّو ينصب طاولة على باب السوق الأسبوعي كي ينصب على المغفلين. عتاده أوراق الجرائد وخبرة في الاحتيال تراكمت مع مرور الأيام. في الليل، يشتري قنينة خمر من النوع الرديء، ويقضي السهرة في الشرب بعد أن يمزق رزمة محترمة من الجرائد ويحولها إلى نتف صغيرة، يكدسها في لفافة من نفس الورق حتى يصبح لها شكل أسطواني، يسميه «علبة الفوز»، أو بالعربية الفصحى «الباكية ديال الربحة». يضع طاولته الخشبية في ركن معروف من السوق، يصفف «البواكي» بعناية، واحدة فوق أخرى، كما يعرض أي بايع محترم بضاعته، ويشرع في جمع الفضوليين بصوته الجهوري. يدعي أنه أخفى أشياء ثمينة بين نتف الجرائد قبل أن يلفها: ساعة يدوية، خاتم ذهبي، ورقة من فئة مائة درهم… ويدعو المتسوقين إلى تجريب حظهم بدرهمين. يضعون القطع النقدية على الطاولة ويختارون «باكية» وعيونهم تلمع من الأمل والسذاجة. بمجرد ما يضع النقود في جيبه، ينقض قرو على اللفافة التي اختارها «الزبون» ويرفعها عاليا بطريقة مسرحية، ثم يشرع في تمزيقها وفتحها بحركات مبالغ فيها، وهو يتحدث كأي «حلايقي» بارع، بكثير من التشويق، عما يمكن أن يكون في قلبها: «كاين اللي ربح ماگانة سواتش، كاين اللي دّا خاتم، كاين اللي ربح بزبوز ديال الدهب، كاين اللي دّا جوج قرفيات»… في إشارة إلى ورقة مائة درهم. المشكلة أن «باكيات» قرو كلها فارغة والحشد الذي يتحلق حوله يعرف ذلك، باستثناء مغفل أو مغفلين. جمهور متواطئ تجلبه الفرجة وموهبة قرّو المدهشة في سرقة الإعجاب ودراهم المغفلين. أشخاص من كل الأعمار، أطفال وشباب وشيوخ، يعرفون أن اللعبة مجرد نصب واحتيال ويشاركون فيها دون أن يرف لهم جفن، لأن الإنسان حيوان نصاب بطبعه، ويفتش عن التسلية بأي ثمن. طيلة العرض الذي تستغرقه لعبة «البواكي» يدور أحد شركاء قرو خلسة بين الجمهور، ولكي يشكر المتواطئين المواظبين يمدهم خلسة بدرهمين كي يشاركوا في اللعبة، ويربحوا شيئا ثمينا، سرعان ما يردونه إلى الشريك المحتال، كي تنطوي الحيلة على المغفلين، ويتوهموا أن اللفافات مليئة بالمفاجآت. يقترب منك الشريك وسط الزحمة ويدس في يديك درهمين دون أن ينبس ببنت شفة. تحس بالرهبة والتشريف. بِعد أن تختار «الباكية» وتفوز بخاتم ذهبي أو ساعة أو مائتي درهم، تجد وراءك الشخص ذاته واقفا ويسترجع منك ما ربحت بخفة، دون أن يترك لك مجالا للمناورة. العملية تنجح دائما في دفع أحد المغفلين إلى السقوط في الفخ. يخرج درهمين ويضع يده على لفافة كي يجرب حظه. يفرغ قرو محتوى اللفافة من النتف الورقية ولا يعثر داخلها على أي شيء ويختم كلامه بعبارات متأسفة حول سوء طالع «الزبون». وقبل أن يبلع الأخير حسرته، يرفع المحتال نبرته متحديا: سمعت أحدهم يقول إن كل اللفافات فارغة وأتحداه… خذ واحدة بعشرة دراهم وإن لم تجد فيها شيئا أعطيك مائة درهم، ويخرج الورقة «القرفية» مكمشة من جيبه ثم يرميها بغضب على الطاولة، قبل أن يوجّه كلامه لـ»الفيكتيم» الذي أمامه: ضع عشرة دراهم على الطاولة واختر أي «باكية» تريد، إن وجدتها فارغة خذ المائة درهم، «الله يخلف عليك». عندما يخرج المسكين عشرة دراهم، يسارع قرو في تفكيك اللفافة، وبطريقةً رشيقة يضع في يده درهما أو خمسين سنتيما أو عشرة سنتيمات أحيانا، يخفيها بمهارة قبل أن يوهم المقامر بأنه عثر على القطعة النقدية وسط العلبة… هكذا يربح المغفل «جوج دريال» ويخسر عشرة دراهم. عندما يحتج أحدهم أو يعبر عن ندمه يصرخ فيه قرّو دون رحمة: «لعبتي وخسرتي، لقمر هو هادا!»

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

سنوات النصب سنوات النصب



GMT 18:19 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

مسرح القيامة

GMT 18:15 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

لبنان... و«اليوم التالي»

GMT 18:09 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

لماذا توثيق «الصحوة» ضرورة وليس ترَفاً!؟

GMT 18:05 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

جهود هوكستين: إنقاذ لبنان أم تعويم «حزب الله»؟

GMT 18:00 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

ذكرى شهداء الروضة!

GMT 17:54 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

الشريك المخالف

GMT 17:52 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

كفاءة الحكومة

GMT 17:49 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

اليوم العالمى للقضاء على العنف ضد المرأة

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ المغرب اليوم
المغرب اليوم - المغرب يفقد 12 مركزاً في تصنيف مؤشر تنمية السياحة والسفر لعام 2024

GMT 02:13 2018 الأربعاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

تمثال لدبين قطبيين يُثير ذهول عملاء مركز تسوق

GMT 07:35 2016 الأحد ,18 كانون الأول / ديسمبر

أفضل مناطق لسياحة التزلج على الجليد في أوروبا

GMT 14:22 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

زلزال بقوة 3.2 درجة تضرب ولاية "مانيبور" الهندية

GMT 19:58 2020 الخميس ,09 كانون الثاني / يناير

أسماك القرش تنهش جثة لاعب كرة قدم في أستراليا

GMT 18:31 2019 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

تشابي ألونسو يؤكد جوارديولا سبب رحيلي عن ريال مدريد

GMT 21:58 2019 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

لطيفة رأفت تلهب مواقع التواصل الاجتماعي بمظهر جذاب
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib