بعض مسيحيي لبنان وعقدة التوطين

بعض مسيحيي لبنان وعقدة التوطين

المغرب اليوم -

بعض مسيحيي لبنان وعقدة التوطين

خيرالله خيرالله

متى يخرج المسيحيون اللبنانيون من عقدة التوطين؟ الحاجة أكثر من أي وقت إلى جعلهم يستوعبون أن اقتصاد لبنان مرتبط بالوضع السوري وأن إعادة إعمار سوريا فرصة لهم، خصوصا إذا توفر من يشرح لهم أهمية وجود مشروع وطني عابر للطوائف.

لا يمكن معالجة أزمة السوريين في لبنان من دون قرار وطني يأخذ في الاعتبار الوضع الإقليمي وتطوّراته بديلا من الكلام السطحي عن خطر التوطين المثير للشفقة.

الشفقة هنا، هي على قسم من المسيحيين في لبنان الذين لم يستوعبوا يوما لا المعادلات الداخلية ولا المعادلات الإقليمية. هذا الخطر، خطر التوطين، تتذرع به فئات مسيحية بين حين وآخر كاشفة عجزها عن فهم ما يدور على الأرض، إن في لبنان وإن في محيطه القريب والبعيد. لدى هذه الفئة، هدف وحيد هو إثارة الغرائز واستجلاب العطف. فالكلام عن التوطين سهل جدا، ويظل كلاما بكلام، تماما مثل الكلام عن “حقوق المسيحيين” واستعادة هذه الحقوق.

يبقى الصعب الاعتراف بأن في الإمكان دائما معالجة خطر التوطين، كذلك التهديد الذي تتعرض له حقوق المسيحيين، وإنّما من زاوية خطر التوطين على لبنان واللبنانيين عموما وحقوق كلّ المواطنين اللبنانيين بغض النظر عن طائفتهم ومذهبهم والمنطقة التي يقيمون فيها. أكثر من ذلك، المهمّ في المرحلة الراهنة استيعاب أن السوريين لا يريدون الاستيطان في لبنان، بل إنّ أمام لبنان فرصة كبيرة للاستفادة من مرحلة إعادة بناء سوريا بعد رحيل النظام فيها ورئيسه. هذا ما تحاول المنظمات الدولية إفهامه إلى كلّ من يعنيه الأمر بدل إضاعة الفرص المتاحة. لعلّ أفضل ما يستطيع لبنان عمله هو التعلّم من الأردن. هناك قيادة أردنية تعي تماما دقّة المرحلة، وتعي خصوصا أن وجود اللاجئين السوريين فرصة للحصول على مساعدات كبيرة ثمنا لما يتكبّده البلد جراء النزوح السوري.

يدلّ ما لجأ إليه وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل، الذي قاطع زيارة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، على وجود من يبحث عن بطولات وهمية في زمن يمكن أن تكلّف مثل هذه الممارسات لبنان واللبنانيين، خصوصا المسيحيين، الكثير.

جاء كلام وزير الخارجية، وهو كلام ذو طابع عنصري، في وقت يفترض في الحكومة اللبنانية البحث الجديّ في قضية الوجود السوري في البلد، الذي يمكن أن يشكّل أزمة حقيقية ذات أبعاد في المدى البعيد. هذا البحث الجديّ بديل من الهرب إلى الشعارات الشعبوية التي تغطي على واقع متمثل في أنّ العمل من أجل معالجة قضية كبيرة في حجم الوجود السوري في لبنان، لا يكون إلّا عبر المؤسسات اللبنانية المعطّلة، في مقدّمها مؤسسة رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء.

هناك عشرات المشاريع الجاهزة لسوريا ما بعد سقوط نظام الأسد. يمكن للبنان أن يكون منطلقا لهذه المشاريع التي تصبّ في إعادة إعمار سوريا. فسوريا التي عرفناها انتهت. هناك تطوّرات تتسارع في اتجاه الحل السياسي. الدليل على ذلك، صمود وقف النار، رغم بعض الخروقات، والمسرحية الأخيرة التي جرت في تدمر.. وإعلان بشّار الأسد عن قبوله إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، أي قبوله الرحيل.

ما يمكن أن يساعد لبنان في هذه المرحلة، إضافة بالطبع إلى انتخاب رئيس للجمهورية على وجه السرعة كي ينتظم عمل المؤسسات قدر الإمكان طبعا، إيجاد مشروع وطني جامع تجاه سوريا والسوريين. هناك ترابط بين الاقتصادين اللبناني والسوري. هذا الترابط يسمح للبنان في ظلّ وجود النازحين السوريين في أراضيه بلعب دور أساسي في عملية إعادة إعمار سوريا. على سبيل المثال وليس الحصر، هناك مشروع يستهدف تدريب السوريين على بناء منازل طينية عن طريق استخدام المواد الموجودة في أراضيهم. هؤلاء يمكن أن يتدرّبوا في لبنان تمهيدا لإقامة الوحدات السكنية في سوريا. هل السماح لهؤلاء بتعلّم كيفية استخدام المواد التي في أرضهم توطين؟

آن أوان خروج اللبنانيين، خصوصا المسيحيين من عقدة التوطين. لا يوجد سوري يريد الاستيطان في لبنان. حتّى الذين كانت لديهم مبالغ كبيرة من المال، رفضوا البقاء في لبنان. ذهبوا إلى دبي وغير دبي بسبب غياب الرؤية لدى اللبنانيين. هؤلاء لم يدركوا أن لبنان كان المستفيد الأوّل في ستينات القرن الماضي وسبعيناته من خروج العقول والرساميل من سوريا بفضل السياسات التي مارسها البعث وقبله النظام الأمني الذي جاءت به الوحدة مع مصر بين 1958 و1961.

ساهم السوريون في نمو الصناعة اللبنانية وفي المجال العقاري وفي القطاع المصرفي. هناك أحياء عدة في بيروت وراءها سوريون، من فردان… إلى بدارو.

إذا كان هناك من يريد تهجير المسيحي من لبنان، فإنّ من يريد ذلك هو بعض المسيحيين من ذوي التفكير الضيّق الذي لا يسمح بفهم ما يدور في المنطقة. مثل هذا التفكير الضيّق كان من عمّم كذبة كبيرة من نوع أن المبعوث الأميركي دين براون جاء إلى لبنان أواخر العام 1975 لتهجير المسيحيين وتوطين الفلسطينيين.

في الواقع، لم يأت دين براون إلى لبنان لعمل شيء باستثناء شراء الوقت لهنري كيسنجر كي يمنع اندلاع حرب إقليمية بسبب الوجود المسلّح الفلسطيني في لبنان.

وجد كيسنجر أخيرا الحل بعدما أقنع الإسرائيليين بالسماح للجيش السوري بدخول لبنان و”وضع يده على مسلحي منظمة التحرير الفلسطينية”. أسوأ ما في الأمر أن إسرائيل اشترطت في نهاية المطاف بقاء المسلّحين الفلسطينيين في جنوب لبنان كونها تريد “الاشتباك معهم بين حين وآخر”. بقيت هذه الرغبة الإسرائيلية بعد خروج المسلحين الفلسطينيين من جنوب لبنان وحلول عناصر “حزب الله” مكانهم وصولا إلى ما وصل إليه الوضع القائم حاليا بفضل القرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن قبل عشر سنوات تقريبا.

كان حافظ الأسد وراء هذه الخطة الجهنمية. كان يشعل الحريق بين المسيحيين والفلسطينيين وبين المسيحيين والمسلمين في لبنان، ثمّ يلعب دور الإطفائي. أراد بذلك السيطرة على لبنان مستخدما المسيحيين والمسلمين والفلسطينيين وقودا.

من لم يستوعب هذه الحقيقة بين المسيحيين، لا يزال قاصرا. لا يزال تفكيره في مكان آخر، لا يزال أسير الغرائز من جهة والعجز عن مواجهة الواقع من جهة أخرى. يتمثّل هذا الواقع في أن أكبر عدد من المسيحيين هاجر من لبنان نتيجة حربي “التحرير” و”الإلغاء” اللتين خاضهما ميشال عون مع المسلمين والمسيحيين الآخرين عندما كان في قصر بعبدا بين 1988 و1990، وأن أكبر عدد من المسيحيين عاد إلى لبنان عندما بدأت الحياة تعود إلى بيروت ابتداء من العام 1992 وحتى العام 2005. فالوجود المسيحي مرتبط إلى حدّ كبير بالازدهار الاقتصادي للبنان والهجرة مرتبطة بنشر البؤس في الوطن الصغير.

الدليل على ذلك، موجة الهجرة الجديدة للشّباب المسيحي بعد الاعتصام الذي قام به “حزب الله” وسط بيروت طول سنة 2007 بهدف قطع الأرزاق وتدمير الاقتصاد الوطني. هذه الموجة مستمرّة إلى اليوم كون هناك من يريد عزل لبنان عن محيطه العربي وتوريطه في الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري.

متى يخرج المسيحيون اللبنانيون من عقدة التوطين؟ الحاجة أكثر من أيّ وقت إلى جعلهم يستوعبون أنّ اقتصاد لبنان مرتبط بالوضع السوري وأنّ إعادة إعمار سوريا فرصة لهم، خصوصا إذا توفّر من يشرح لهم أهمّية وجود مشروع وطني، عابر للطوائف، يتعاطى مع إعادة بناء سوريا، وهي فرصة قد لا تتكرر، وقد لا تسنح أمامهم قريبا.

 

 

 

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بعض مسيحيي لبنان وعقدة التوطين بعض مسيحيي لبنان وعقدة التوطين



GMT 18:55 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

نقل عدوى لبنان إلى العراق

GMT 18:50 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

«الصراع من أجل سوريا»

GMT 18:48 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

نواب هل يجرؤون على حجب الثقة ؟

GMT 18:45 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

دمشق وطهران والحرب الجديدة

GMT 18:43 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

غزة. غزة... بقلم «جي بي تي»!.. بقلم «جي بي تي»!

GMT 18:41 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

غول الترمبية والإعلام الأميركي... مرة أخرى

GMT 18:38 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

الصراع في سوريا وحول سوريا

GMT 18:36 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

... أن تكون مع لا أحد!

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 12:24 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

نتنياهو يعلن استعادة جثة رهينة من غزة في عملية خاصة
المغرب اليوم - نتنياهو يعلن استعادة جثة رهينة من غزة في عملية خاصة

GMT 15:04 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

شبيه عادل إمام يظهر في مسرحية منة شلبي "شمس وقمر"
المغرب اليوم - شبيه عادل إمام يظهر في مسرحية منة شلبي

GMT 21:42 2018 الإثنين ,16 تموز / يوليو

سفير المغرب بغينيا يحذر جمهور الوداد

GMT 07:31 2018 الجمعة ,26 تشرين الأول / أكتوبر

هذا الشهر يحمل إليك أجواء مهنية وإجتماعية مميزة

GMT 22:51 2018 السبت ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

شركة ريفيان الأميركية مستعدة لإطلاق أول بيك أب كهربائية

GMT 18:02 2016 الثلاثاء ,26 تموز / يوليو

ماما سلمى .. هدية الأطفال
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib