الرئيسية » أخبار الثقافة والفنون
مسيرات الحراك الشعبي الجزائري

الجزائر - المغرب اليوم

هكذا، وفي غفلة عن المثقف الذي لم يعد نابليون يتحسس مسدسه كلما رآه، لأنه لم يعد منخرطاً بما يكفي في معركة الدفاع عن صوت المقهورين، انطلقت مسيرات الحراك الشعبي الجزائري في الـ23 من فبراير (شباط)، سلمية هادئة، إلا أنها هادرة منذ البدء، دائمة التجدد بحيث لَم تفتر حرارتها للمطالبة بالتغيير عبر أيام الجمعات المتتاليات، منذ الأولى حتى هذه الخامسة عشرة. كل جمعة تأتي معها بثمرة نضالية جديدة، بدأت بإلغاء العهدة الخامسة، وانتهت بوضع بعض رؤوس الفساد في السجن، وتأجيل الانتخابات، وما زال الطريق طويلاً ومثمراً...

انطلقت الثورة السلمية على يد شباب قادمين من هذا الزمن الرقمي، يدركون بعمق الحياة وفنون الاتصال بالعالم الخارجي، وعبر نوافذ وسائط التواصل الاجتماعي، واليد البيضاء لمارك زوكربيرغ الذي غير العالم أكثر من أي مثقف أو فيلسوف أو داعية، يدركون أن المجتمعات البشرية كلها في أزمة، تعاني من أهواء التسلط والاستغلال، وفي واقع شديد التعقيد.

رغم أنني أكاد أكون متأكدة أن هؤلاء الشباب، وهؤلاء العمال، والطلبة، والتجار البسطاء، الذين يؤثثون المسيرات الأسبوعية، من النساء والرجال، لم يسمعوا أبداً صوت «ريجيس دوبريه» يقول إن العصر عصر علم، وبالتالي لم يعد للمثقف دور كبير في تعبئة الجماهير، ولا بفكرة «جان بول سارتر» القائلة بفاعلية المثقف الملتزم، وضرورة أخذه بيد مجتمعه، إلا أن المؤكد أن هؤلاء الشباب المنتفضين القادمين من الغبن والبطالة والفقر والإقصاء، وندرة الحلم بل انتفائه، هؤلاء الشباب الذين تنتظرهم زوارق الموت، كبروا بسرعة، ونهلوا من حكمة حياة الناس الصعبة، لذلك فهم أكثر وعياً بمجتمعهم من المثقف، على رأي الفيلسوف علي حرب، وإنهم لا غرو يسخرون من المثقف المستقيل، المثقف الذي تخلى عن وظيفته النقدية والمشاغبة، وعن انخراطه في هموم الإنسان، يسخرون من ذاته المتورمة جداً التي يدفع بها دفعاً مثل كرش ضخمة. المثقف الذي لم يجرب نكران الذات، ولا يحمل قضية، ولا تهمه قضايا الناس؛ إنه المثقف المبهور بمرآته، الفرحان بتعداد جوائزه وإكرامياته، وعلاقاته الثرية الواسعة لخدمة بهرجته وحياته الخاصة، المتعالي بحيث يتهم العامة بالجهل؛ إنهم في المقابل يتفرجون عليه في قفص التدجين.

حقاً إنه عصر نهضة جديد، بمعيار مختلف تاريخياً عن عصر نهضة شبلي شميل، وطه حسين، ومحمد عبده، وقاسم أمين. نهضة مختلفة، تقوم بها طبقة جديدة من الشباب، تشكل الأغلبية الواسعة في المجتمع، لم يشملها التصنيف الطبقي الكلاسيكي. شباب أغلبيتهم متعلمون، منفتحون على العالم الخارجي، نشطاء على شبكات التواصل الاجتماعي، تخرجوا من الجامعات في تخصصات مختلفة، لكن البيروقراطية أقصتهم من الحصول على عمل. شباب تكونوا سياسياً خارج الأحزاب السياسية التقليدية المسماة بالمعارضة أو بالموالاة. لم يجدوا منبراً لهم لمناهضة الاستبداد بكل أنواعه سوى كبريات ملاعب كرة القدم بالجزائر، يؤمونها بالآلاف، ليس في العاصمة فحسب، بل في كل مكان تدور فيه الكرة، وتدور فيه الأرض. تشتعل مختلف الملاعب كل أسبوع بالأناشيد وأغاني التذمر. كانت تُظهر الشكوى في البداية، ثم تحولت إلى الرفض، ثم إلى الغضب، ثم الثورة والنزول إلى الشارع بكل سلمية، لتحويل مسار النهر نحو مطالب الديمقراطية والدولة المدنية والحرية والعدالة والمواطنة الحقيقية، واسترجاع القدرة على الحلم.

بوادر نهضة العصر الرقمي الجديدة لم تؤطرها أفكار «أنطونيو غرامشي» من «دفاتر السجن»، ولا نية «جان بول سارتر» الطيبة في الالتزام، ولا تاريخ الأنتلجنسيا الفرنسية أو الأنتلجنسيا الروسية، بل وُلدت على أيدي شباب، نسبة عددهم تشكل أكثر من 80 في المائة من سكان البلاد. بوادر نهضة وُلدت بالغة وعاقلة ومتوازنة. انطلقت بهتافاتها الحاسمة في أشكالها اللغوية الشعبية المرنة، ومضمونها الرافض لأي صلح أو تصالح أو أي تفاوض مع رموز الفساد لنظام ريعي قمعي. كانت أصوات الشباب مدوية تملأ سماء العاصمة مثل رعود تحت الشمس:

- مكانش الخامسة يا بوتفليقة جيبو الـ«ب آر» وجيبو «الصاعقة»!

يعني لا تفاوض... هاتوا أعنف ما لديكم من الفيالق المدربة للقمع، وهاتوا أكثر القوات الخاصة للدفاع عن «النظام» وأقساها، فلن نتراجع، وسنظل على سلميتنا، فلم يعد بإمكاننا الصبر. فإما الموت في البحار أو الموت في الحراك.

أمشي وسط الجموع منذ اليوم الأول، بحار متلاطمة أغلبهم من الشباب. كل جمعة جديدة نعبر النفق الذي أُطلق عليه اسم (غار حراك)!!، نجتازه نحو ساحة موريس أودان، ساحة جميلة وسط العاصمة، تحمل اسم المثقف والمناضل الإنساني، شهيد ثورة التحرير الجزائرية موريس أودان (Maurice Audin) الذي اختطفه الجيش الفرنسي سنة 1957 وتم اغتياله، ولَم يعثر له على أثر، ولَم يعتذر النظام الفرنسي عن فعلته هذه رسمياً وأمام العالم، إلا أخيراً على لسان رئيسها الحالي إيمانويل ماكرون.

ها نحن نعبر النفق ثم الساحة، ثم نتوجه نحو البريد المركزي. يبدو وجهي مألوفاً لدى بعضهم، ربما من بينهم من كان طالباً لي في الجامعة في إحدى الدفعات خلال أكثر من ربع قرن من التدريس، أو ربما شاهدني على شاشة ما. يُشهر هاتفه ليأخذ سيلفي على السريع. نبتسم معاً. نبتسم جميعاً للكاميرا وللمستقبل. إنها «ثورة الابتسامة»، إنها «الثورة البيضاء». حتى وإن كان بعضهم، كما يبدو من أحاديثنا الخاطفة، قد اطلع على بعض رواياتي وأشعاري المنددة بالنظام الفاسد التي أشار بعض النقاد إلى أنها تنبأت بالزلازل التي سبقت الثورات العربية، فإنني متيقنة اليقين كله أنهم قرأوا كتاب الحياة، كتاب الحياة اليومية، بما فيه من فنون القهر والبطالة والإقصاء واللاجدوى واللاحُلْم، كتاب الحياة القاسية، تعلموا منه الحلم والمقاومة والثورة.

نسير جنباً إلى جنب في مليونية عامرة بحلم التغيير، وهم يرفعون أصواتهم الشجية والصارمة نحو ملكوت السماء، هاتفين:

- كليتو البلاد... يا السراقين!!

قد يهمك أيضا : 

مصري يسرق خاتمًا مِن وريث نابليون بونابرت والشرطة الفرنسية تستعيده

 بيْع 3 رسائل حُبّ نادرة في مزاد علني مقابل 513 ألف يورو

View on Almaghribtoday.net

أخبار ذات صلة

الساحة الرضوانية في ضيافة وزارة الثقافة المصرية بقبة الغوري
أولويات ميزانية الثقافة والتواصل تثمين سجلماسة ومعرضان للألعاب والإعلام
ماستر كلاس للمخرج أشرف فايق بمركز الثقافة السينمائية الأربعاء…
24 مدينة مغربية تتدارس عطاء الأديب والناقد برادة
ندوة تناقش أداء نخب العرب في الغرب

اخر الاخبار

أخنوش يؤكد أن الملك محمد السادس يتابع تعبئة الموارد…
لجنة القطاعات الاجتماعية في مجلس النواب المغربي تُصادق على…
إيمانويل ماكرون يُشيد بجهود المغرب في مجال تدبير المياه
بوريطة يُرحب بقرار وقف إطلاق النار في لبنان ويدعو…

فن وموسيقى

الفنانة هند صبري ضمن قائمة أكثر النساء تأثيراً في…
منى زكي تحتفي بعرض فيلمها "رحلة 404" في هوليوود…
الكويت تسحب الجنسية من الفنان داوود حسين والمطربة نوال
حسين فهمي يكشف تفاصيل تحضيره لمهرجان القاهرة السينمائي في…

أخبار النجوم

أول رد فعل من داود حسين بعد إعلان سحب…
أحمد العوضي يقبل تحدي أحد متابعيه في ركوب الخيل
مي عمر تدافع عن محمد سامي بعد تسريب فيديو…
حسام حبيب يهاجم شقيق محمد رحيم بسبب شيرين

رياضة

الخليفي يحسم موقف باريس سان جرمان من ضم نجم…
غضب صلاح من بطء مفاوضات ليفربول واهتمام من باريس…
محمد صلاح يؤكد أن مباراته أمام مان سيتي ستكون…
"الفيفا" يُعلن حصول ملف استضافة السعودية لكأس العالم 2034…

صحة وتغذية

التحفيز العميق للدماغ يعيد القدرة على المشي لمريضين مصابين…
إجراء جراحي يعكس أضرار سرطان الساركوما ويعيد استقلالية المرضى
وزير الصحة المغربي يؤكد أنه لا يمكن وضع تشريعات…
السجائر الالكترونية قد تحمل مخاطر صحية غير معروفة

الأخبار الأكثر قراءة

نغمات ماريمبا نسمة عبد العزيز وفيولينة محمود عثمان بالمسرح…
قصور الثقافة تكرم الشاعر محمد عبد القادر ببورسعيد
الساحة الرضوانية في ضيافة وزارة الثقافة المصرية بقبة الغوري
أولويات ميزانية الثقافة والتواصل تثمين سجلماسة ومعرضان للألعاب والإعلام
ماستر كلاس للمخرج أشرف فايق بمركز الثقافة السينمائية الأربعاء…